د. محمد الصياد *
في قمة ميثاق التمويل العالمي الجديد Summit for a new global financing pact التي عقدت على مدى يومين (22-23 يونيو 2023) في باريس، كان واضحاً سعي المجموعة الغربية التفاوضية المناخية، للتملص من التزاماتها التمويلية تجاه مشاريع التخفيف والتكيف (خفض الانبعاثات الكربونية والتكيف معها) في الدول النامية، المنصوص عليها في «صفقة» باريس للمناخ لعام 2015. فضلاً عن محاولة استباق التحولات العالمية الجارية باتجاه إقامة نظام متعدد الأقطاب، بما يشمل استبدال مؤسسات التمويل الدولية الحالية بأخرى أكثر تمثيلاً وأكثر توازناً لمصالح الجماعة العالمية.
قد تكون باربادوس، الدولة الجزرية الصغيرة (مساحتها لا تتجاوز 439 كيلومتراً مربعاً)، رسمياً، وراء مقترح فرض الضريبة العالمية على انبعاثات سفن الشحن البحري. إنما جدير بالملاحظة، أنه صار معتاداً في مفاوضات المناخ، أن مثل هذه المقترحات تقدمها مفوضية بروكسل (الاتحاد الأوروبي) لإحدى الدول النامية الجزرية الصغيرة، كي لا تتوجه السهام إلى الاتحاد الأوروبي، على أساس أن الأمر يتعلق بمصالح دول نامية صرفة. لذلك، فإنه حتى وإن حمل المقترح اسم «مبادرة بريدجتاون» (نسبة إلى اسم العاصمة الباربادوسية)، على أساس أن مقدمتها رئيسة وزراء باربادوس ميا موتلي، التي ظلت تطالب حقيقة طوال الأشهر الماضية بإدراج مقترحها ضمن مؤسسات النظام المالي العالمي - فإن المقترح يبدو أوروبياً، وذلك برسم الحماس الذي أظهره الغربيون في قمة باريس المالية له، على أساس أنه سوف يعفيهم، كما يعتقدون، من دفع 100 مليار دولار سنوياً مستحقة الدفع منذ إقرارها في الدورة 15 لمؤتمر الأطراف في كوبنهاجن عام 2009، والذي قدمته حينها الدولة المضيفة (الدانمارك)، بالتنسيق الحصري مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا، من دون التشاور مع الصين والدول النامية المشاركة في المؤتمر وعددها 194 دولة.
فاللغة التي استخدمتها القيادات السياسية والمالية الغربية (كلمة رئيس البنك الدولي الجديد أجاي بانغا على سبيل المثال، هو الذي تسلم للتو في 2 حزيران/يونيو 2023 منصبه لمدة 5 سنوات)، في خطاباتها في المؤتمر، هي نفسها التي ظلت ترددها قبل أكثر من عقد. نفس الوعود والتبشير بالأمل والتفاؤل. وكيف لمسؤولي الدول النامية المشاركين في المؤتمر، أن يتفاءلوا برؤية التمويل الموعود، في الوقت الذي تحيل مقترحات القادة الغربيين هذه المهمة على التمويل الخاص غير المبني للمعلوم (مقترح جمع 5 مليارات دولار لصندوق الخسائر والأضرار من الأثرياء، على سبيل المثال. والقصد ينصرف إلى شركات الشحن الدولية التي تتمتع بنفوذ واسع في المنظمة البحرية الدولية، والتي لن تسمح بالتالي بفرض ضريبة كربون عليها).
لو راجعنا مضابط جلسات اجتماعات المناخ، منذ بدايتها (قبل عام 1992 في قمة الأرض في ريو دي جانيرو حيث وُقعت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ UNFCCC، وقبل إنشاء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ Intergovernmental Panel on Climate Change في 1988)، سنجد أن الدول الغربية، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي ببلدانه ال 27، هي التي «اخترعت» وروجت وسوقت لقضية تغير المناخ. وراحت تضغط، منذ ذلك الوقت، على الدول النامية لتخصيص ميزانيات للصرف على مشاريع الحد من انبعاثات الكربون الناتجة عن 6 غازات احتباس حراري. ولما كانت الدول الغربية سباقة في حركة التصنيع، كان لزاماً عليها أن تتحمل مسؤولية تركيز هذه الانبعاثات منذ ثورتها الصناعية الأولى (من 1760 إلى 1840)، ودفع مقابل تلويثها. أمام ضغط غالبية العالم (133 دولة نامية - عدد أعضاء مجموعة ال 77+الصين)، لجأت الدول الغربية إلى سياسة الوعود والدفع بالقطارة، قبل أن تتحول للضغط على الدول النامية للقبول أولاً بأخذ التزامات بخفض الانبعاثات، ومن ثم «التملص الذكي» من التزاماتها المالية، توطئةً لتقنين هذا التملص بإحالة موضوع تمويل المناخ إلى ما جرى تعميمه في بيان قمة ميثاق التمويل العالمي الجديد.
حتى أنطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة، أشار في كلمته في المؤتمر إلى ما أسماه بقايا العقلية الاستعمارية والهيكل الاستعماري الجديد عندما يتعلق الأمر بالتمويل. مستشهداً في ذلك بتوزيعة حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي المتاحة للدول الأعضاء لتخفيف الأثر السلبي لأزمة الديون الدائمة ولتوفير تمويل طارئ للدول الفقيرة هي بأمس الحاجة إليه. هنا، كما قال غوتيريش، تلقى الاتحاد الأوروبي الذي يبلغ إجمالي عدد سكانه 447 مليون نسمة، 160 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، بينما تلقت قارة إفريقيا التي يبلغ إجمالي عدد سكانها 1.2 مليار نسمة، 34 مليار دولار فقط من حقوق السحب الخاصة. مشيراً إلى أن «المواطن الأوروبي حصل في المتوسط على ما يقرب من 13 مرة أكثر من المواطن الإفريقي». وبالمناسبة كل هذا تم وفقاً «للقواعد».
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية