السلطات السياسية خارج القصور الرئاسية

00:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

سلّم دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق نفسه الأسبوع الماضي (25 أغسطس) للسلطات، سجيناً لفترة وجيزة في ولاية جورجيا الأمريكية،على خلفية اتهامه بممارسته ضغوطاً انتخابية في الولاية نفسها في عام 2020. أخذوا بصماته ومقاساته، ثمّ دفع كفالة بقيمة 200 ألف دولار، لكنّهم اشترطوا عليه عدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي تخويفاً للمتّهمين أو الشهود في القضية، الأمر الذي تمّ التفاوض عليه مسبقاً من قبل محاميه، وبعدها التقطوا له صورةً جنائية قبيل مغادرته تمّ نشرها بملامحها للعيون العالمية، حيث بدا فيها الرئيس عابساً وعاقد الحاجبين.

 صحيح أنّ ترامب اعتبر تلك الملاحقات الانتخابة «تدخّلاً انتخابياً»، باعتباره الأوفر حظاً في سباق الانتخابات الرئاسية لعام 2024 المُقبل، لكنه وصف ما حدث معه ب«المهزلة القضائية»، واصماً الملاحقات الجنائية بحقه بكونها «تدخّلاً انتخابياً». يبقى من المشهد أنّ الرئيس ترامب الذي أمضى ولايته عبر «تويتر» مبهوراً بصوره في وسائل الإعلام حلّ في التاريخ صاحب أوّل صورة جنائية تُلتقط لرئيس أمريكي سابق.

 يمكننا التفكير في تعميم الظاهرة وشيوعها، إذ نلاحظ خروج معظم القادة وزعماء ومشاهير العالم في هذا العصر الفضائي من قصورهم نحو المشاعات الفضائية بحثاً عن جماهير المتابعين. أقول العلن قاصداً خروجهم من معازلهم نحو إعلان مواقفهم، وتصريحاتهم، وردود أفعالم المقتضبة على ما يحصل في العالم من أحداث، ومتغيرات، وتحوّلات إلى تعميم صورهم ولقطاتهم المتنوعة. لا يمكنك حصر أعداد هؤلاء، أو مهنهم، ومواقعهم، وجنسياتهم من أنحاء الأرض، الذين يتابعون ويؤشّرون ويعلّقون على مواقف الحكّام وتطلعاتهم بصفتهم رفاق الرؤساء والحكّام والمسؤولين ومتابعيهم بلا حواجز في هذا العالم الجديد.

 سؤال: هل يعني هذا سقوط الأقنعة والطيّات التقليدية التي طالما التصقت بتاريخ الحكم وصور الحكّام؟ نعم ولا على الأرجح. كيف؟

1- من كان يصدّق أو يتصوّر أنّ الشاشات ببرامجها المدروسة الناعمة قد عبّدت الطرق جيّداً وطويلاً تمهيداً لسقوط منظومة الاتحاد السوفييتي من الداخل بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال الحروب التقليدية؟ إنّها العين العالمية اليوم التي تبرز مشدودة نحو تزاحم معظم دول العالم بحشريتها وبراعتها العسكرية وفنونها الإعلامية الباهرة حول حروب أوكرانيا العالمية بصيغة الجمع ذي الطابع الخاص والهوية الجديدة، والذي تبدو فيه موسكو وبوتين في انشغال دائم بأخبار تدفّق المسيّرات المُقلقة هناك كما في أيّ بقعةٍ أخرى ملتهبة من العالم؟

2- من كان يتصوّر أو من لا يتذكّر تأثيرات أشرطة الكاسيت التي راحت تتدفّق من «النوفل لو شاتو» ضاحيةٍ من ضواحي باريس في 1988 نحو إيران كأدوات إعلامية حاملة أصوات وصلوات وخطباً ورؤًى ممهدة نجحت في بسط السجادة الإيرانية بهدف إسقاط شرطي الخليج شاه إيران وعودة الإمام الخميني ظافراً إلى طهران؟

 لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل استراتيجيات متطوّرة محورها التأثير، والتغيير، والتطوير للشعوب. وكان لكلّ استراتيجية زمانها، وأسبابها، ووسائلها، وأدواتها، ونتائجها. ولطالما كانت أكلاف النصر الذي لم يكن يعني قطعاً تحقيق التطوّر بالطبع تتجاوز أكلاف الحروب والنزاعات على المستوى البشري والحضاري. كانت هذه الاستراتيجيات الدموية وما زالت تدور في البرّ والبحار والمحيطات والفضاء، تفجّر مخازن الشرور المكبوتة والأحقاد الطائفية الدفينة، فتجنح إلى الإرهاب، ورفض الآخرين، واعتماد القتل والتدمير والتخريب بهدف الإخضاع والتوسع والاستثمار. 

 وجاء الخروج التواصلي إلى الفضاء شاسعاً للقبض على مساحات الأرض والمحيطات والبحار وخيراتها المرسومة من فوق وبأدقّ التفاصيل، تحقيقاً لما رسمته تقنيات ما عرف ب«حرب النجوم».

 صحيح أنّ «الحضارات» الصناعية قد يسّرت في وجهها القبيح، وخصوصاً الحربيّة منها، الاستيلاء على الطبيعة، والكائنات الأخرى، والأفراد والجماعات الإنسانيّة، والدول بهدف توسيع السلطات وتحقيق الأحلام الإمبراطورية، لكنّ النار بقيت وستبقى للأسف العنصر المشترك أو الحاضن للأدوات والأسلحة الأرضية والبحرية والفضائية الخطرة التي أبدعها الإنسان، وما زال يسخّر عقله طمعاً في المزيد من تحقيق المكاسب والمصالح، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ البشرية اليوم تبدو مجتمعاً واحداً، منخرطة في متابعته بتفاصيله، وما يظهر لنا منها في بلادنا ليس سوى جشع العبور نحو الشرق الأقصى ونحو المجتمعات البدائية، حتّى القبليّة منها في مجاهل القارة السمراء.

 يسبق نور التواصل النيران، فيرفع الأغطية السميكة تمهيداً للثورات التي تُخلخل المجتمعات من داخل. وإذ تنضج اليقظات تندلع الانتفاضات، وتُفاجئ الحروب الأنظمة، وكأن المسألة لعبة ذكيّة تواصلية تُدار عن بعد أو عبر فضاءاتٍ مجهولة وبأيدٍ داخلية تنتظر الجيوش المستوردة في الأوقات المرسومة. هكذا تهتزّ بل تنهار الأوطان والأنظمة، وحتّى الأفكار والقيم والثوابت لدى أهلها ومعتنقيها وأصحابها، وتختلط الإجابات المتناقضة عن أسئلة من نوع:

 أين تقع المسؤوليات في الغرب أم في الشرق؟ أهي في الداخل العربي والإسلامي أم في الخارج؟

 إنّنا في عصر المراوحة بين الإمبراطوريات والأنظمة البائدة والديمقراطيات المتهالكة في انتظار مفاهيم السلطات السياسية خارج القصور الرئاسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yckk6vwn

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"