عبد الحسين شعبان
منذ مطلع التسعينات تابعت ما اصطُلح عليه «الذكاء الاصطناعي»، وحرصت على أن أقرأ ما كان يكتبه الصحفي اللامع محمد كامل عارف، عن العلوم والتكنولوجيا الحديثة، وكرّس نحو أربعة عقود من حياته لتعريفنا بها، بل حبّبها إلينا بطريقته الماتعة، وأسلوبه الشائق، وخفّة دمه المعهودة، فضلًا عن ذلك فقد عرّفنا بطائفة كبيرة من العلماء العرب، بمن فيهم فئة الشباب.
ولم يترك ظرافته حتى وهو يعاني اليوم من الشيخوخة، حيث أُصيب بالعمى والشلل في آن واحد، فقد بدأ كتابه الجديد الذي صدر في 2023 بمقدمة يقول فيها «ماذا كان الرحّالة السندباد البحري سيعمل عندما يجابه جداراً لا يمكن عبوره؟».
يجيب عن هذا السؤال: لعلّه سيُغنّي، وهل غير الغناء معبّر عمّا أصابني؟ إنه يغنّي وهو مقعد في بيت المساعدة الطبية.
وكنت وأنا أتابع أخبار الذكاء الاصطناعي، وإذا بي أُفاجأ بأن دولة الإمارات العربية المتحدة أسّست أوّل وزارة للذكاء الاصطناعي، ترافقاً مع وزارتي التسامح والسعادة، ومسؤولياتها ليست علمية أو تكنولوجية وحسب، بل سياسية وقانونية وفلسفية وفكرية واجتماعية وإنسانية.
ويبدو أن القرن الحادي والعشرين هو قرن الذكاء الاصطناعي بامتياز، وهو الذي سيُغيّر العالم على نحو غير مسبوق، ولا مثيل له منذ ظهور الإنسان قبل ملايين السنين. فهل سنعيش مع البشر الآليين؟ وكان هذا شعار المعرض الدولي للروبوت الذي انعقد في طوكيو (1999).
وحسب صحيفة (يو إس توداي) الأمريكية، نقلًا عن عارف، أن صناعة الكمبيوتر اليوم لم يكن لها وجود لولا العراقيين. والفضل يعود إلى الخوارزمي الذي عاش في الفترة بين 770 و849م، حيث يعتمد علم الكمبيوتر اليوم على اللوغاريتمات والمعادلات الرياضية المأخوذة عنه، والتي تشكّل أساساً في برمجة الكمبيوتر.
وهو ما توقّفت عنده مطولاً لدى سماعي خبر منح البروفيسور العراقي ضياء الجميلي وسام الإمبراطورية البريطانية بأمر من ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، تقديراً لخدماته وإنجازاته في مجال البحث العلمي في بريطانيا.
وقبل نحو عامين، التقيته في مؤتمر في بغداد، وتحدّثنا طويلًا بخصوص الذكاء الاصطناعي. وفي جلسة خاصة ضمّت نخبة محدودة، أرجع الأصول الأولى للذكاء الاصطناعي إلى الخوارزمية. وفي زيارة لي إلى ليفربول، استضافني بكرمه الأصيل، وكنت سألته عن ماهية الذكاء الاصطناعي؟ ومن هو أول علمائه في العصر الحديث؟ وكيف تطوّر؟
وباختصار، كان يجيب بكلّ ثقة، كأنه في محاضرة أكاديمية: إنه قدرة الآلة على اتّخاذ القرارات من دون تدخّل البشر. ويعتمد على المعلومات التي يغذّيها بها الإنسان، وإن كان الذكاء الاصطناعي ليس جديداً، لكنه انتشر لأسباب ثلاث؛ أولها: التواصل الاجتماعي وإمكانية الحصول على المعلومات وتجميعها؛ وثانيها: أن العالم اعتمد على الخوارزميات وأحسن استخدامها بذكاء؛ وثالثها: مسار استخدام هذه المعلومات بسرعة خارقة.
ويعود تاريخ الذكاء الاصطناعي إلى الحرب العالمية الثانية، حيث استُخدم بشكل جدّي وسرّي للغاية من قبل عالم يُدعى ألان تورنغ، الذي تمكّن من فكّ شيفرة الجيش الألماني المعروفة ﺒ«Enigma Code» في عام 1943، من خلال جهاز عُرف بماكينة تورنغ «Turing Machine»، وفي عام 1956 طرح جون مكارثي ما أُطلق عليه الذكاء الاصطناعي، بعد أن ظلّت المعلومات عنه سريّة من جانب بريطانيا.
ولفت الجميلي نظري إلى فيلم اسمه Imitation Game الذي ربط الثورات الصناعية القديمة بالثورة الصناعية الحديثة، وهي ثورة الذكاء الاصطناعي في طور الثورة الصناعية الرابع، تتويجاً للثورة الصناعية الثالثة التي عُرفت بثورة الكمبيوتر. أما الثورة الصناعية الثانية فقد ظهرت باكتشاف الكهرباء، في حين أن الثورة الصناعية الأولى ارتبطت باختراع «المحركات البخارية».
وقد صكّ ضياء الجميلي مصطلح الثورة المنسية، وهو يقصد بذلك تلك التي ابتدأت في بغداد في بيت الحكمة بعد اكتشاف الصفر ارتباطاً بعلم الجبر. وعلى أساس اكتشاف الخوارزمي للّوغاريتمات طوّر تورنغ طريقته بإيجاد آلة واحدة لحلّ العديد من المعادلات، بدلاً من صنع ماكنة واحدة لحل كلّ معادلة.
والسؤال الكبير اليوم، الذي يشغل العالم وتدور حوله المنافسات والصراعات الدولية، خصوصاً بصعود الصين: كيف يمكن أنسنة الذكاء الاصطناعي؟ بحيث تتم السيطرة عليه، ووضع الضوابط القانونية المتفق عليها دولياً، لعدم استخدامه بما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالبشرية، فهو كان وما زال أحد أكبر التحديات التي تواجه البشرية اليوم، فهل سنغني على طريقة محمد كامل عارف؟ أظنّ أن التأمل وإعادة النظر والتجربة كفيلة بردّ الاعتبار للعلم والتكنولوجيا، لما فيه خير البشر، وإلّا سينتظر الفناء الجميع.