الشارقة: علاء الدين محمود
عوالم مسكونة بالألق تلك التي تحملها أعمال الرسام الألماني هانس ميملنج، «1430 1494»، الذي يعد واحداً من أشهر فناني عصره، انتقل إلى إقليم الفلاندر في بلجيكا واستقر في العاصمة بروكسل، وعمل هناك مع عدد من الفنانين الهولنديين، مثل فان در فايدن، وكانت له إسهاماته في عصر النهضة الهولندية، ومن بروكسل انتقل إلى بروج حيث توفي هناك، وهو في الأصل مصور، عمل على تقليد الرسم الهولندي المبكر، واشتهر بالأعمال الدينية وفن البورتريه، حيث رسم لوحات لمواطنين من طبقة الأثرياء من المصرفيين، والتجار، والسياسيين ورجال الدين، والأرستقراطيين، أصاب قدراً كبيراً من النجاح فأصبح من أغنى المواطنين في بروج.
وُلد ميملنج في زيلينغنشتات، بالقرب من فرانكفورت بمنطقة الماين الوسطى، وتلقى تدريبه المهني في كولونيا، وعمل لاحقاً في هولندا، يشار إلى أنه أصيب في معركة حربية عام 1477، فقام بالاعتناء به وعلاجه فرسان الإسبارتية في بروج / هولندا، وإظهاراً لامتنانه رفض تقاضي أجراً مقابل لوحة رسمها لهم بين عامي 1479 و1480، كانت شهرته وقتها بدأت بالنمو، وكان له تأثير كبير في حركة الفنون، حيث أعيد اكتشاف إبداعه، وأصبح من مشاهير تاريخ الفن في القرن التاسع عشر، له لوحات متميزة كثيرة أثارت إعجاب عشاق الفن.
لوحة «ماريا بورتيناري»، هي الأشهر بين أعماله رسمها الفنان بالتمبرا (طريقة تلوين سريعة الجفاف) تتكون من صبغة مخلوطة بمادة صمغية لاصقة ذات وسط مائي، واستعان الفنان كذلك بالألوان الزيتية، ورسمت على لوح من خشب البلوط في الفترة بين «1470 1472». والعمل يظهر السكينة والراحة والورع، كأن الفتاة في لحظة دعاء أو تأمل عميق في حقائق الحياة، تميز ميلمنغ في اللوحة بدقة تعامله مع الألوان وتوزيعها، وإتقانه للعبة الظلال والإضاءة، فتظهر مشاهد اللوحة كأنها حقيقية تماماً.
وصف
تظهر ماريا مادالينا في اللوحة، وهي شابة لا يعرف عنها سوى أنها كانت تبلغ من العمر وقت رسم اللوحة 14عاماً، وظهرت في العمل قبيل زواجها من المصرفي الإيطالي توماسو بورتيناري بفترة بسيطة، وهو أحد أبرز أثرياء المجتمع حينذاك، وكان من رعاة الفنان، وفي اللوحة يلاحظ المشاهد أن الفتاة ترتدي أحدث صيحات موضة أواخر القرن ال 15، فتظهر بمعطف فاخر، وغطاء رأس مخروطي أسود طويل، مع وشاح شفاف وقلادة مرصعة بالجواهر، وقد ظهرت ذات الفتاة بملابس ووشاح ومجوهرات في لوحات أخرى رسمها لها الهولندي هوجو فان در، في 1475؛ والمعروف أن كل من فان در وميملنج، هما صديقان وينتميان إلى ذات المجتمع الهولندي، ورسما الكثير من المشاهد المتشابهة.
الغريب أن اللوحة تشبه بورتريه آخر رسمه الفنان للمصرفي بورتيناري، والذي كان حينذاك خطيبا لماريا وقد تزوحها لاحقا، يعتقد بعض مؤرخي الفن، أن حجم اللوحتين الصغيرتين والألفة الموجودة فيهما يوحي بأن هذه البورتريهات قد طُلبت لأجل غرض خاص، يظهر كل من الفتاة وزوجها في وضعية التأمل، أو ربما الدعاء، خاصة أن كل من الفتاة وزوجها كانا من علية القوم ويحتلان مكانة رفيعة في الطبقة الأرستقراطية، واللوحتان موجودتان الآن إلى جانب بعضهما بعضاً على حائط في متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية.
تفاصيل
تبدو ماريا في المشهد متجهة قليلاً نحو اليسار، وتضع يدها على اليد الأخرى في إشارة إلى استغراقها في التأمل، واللوحة رسمت بمزاج فلسفي يعلي من شأن التفكير، وهي تظهر النموذج بملامح اسكندنافية إلى حد كبير، خاصة في ملابسها التي تنتمي إلى صفوة المجتمع الفلمنكي والإيطالي، واللوحة رسمت على خلفية مسطحة، مظلمة بعض الشيء، ويشير النقاد إلى أن لوحات ميملنج المبكرة كانت في غاية الوضوح، وكانت تجد الأفضلية في دوائر البلاط الملكي، إلى جانب لوحات يان فان إيك، وروجير فان فايدن، غير أن أسلوبية ميملنج قد تطورت، وصارت لوحاته بخلفيات وتصاميم داخلية غنية، وتظهر فيها مشاهد طبيعية، كما في هذه اللوحة ذات الخلفية الغامقة، التي تظهر براعة كبيرة في توزيع الألوان وتوظيف الإضاءة، تظهر مشاعر الفتاة في تلك اللحظة.
ويلفت النقاد إلى أن وجه ماريا في اللوحة يبدو مثالياً، ومنسجماً مع سمات الجمال السائدة في ذلك الوقت، خاصة تلك الحواجب المرفوعة والأنف الطويل، وقد عقد كثير من النقاد مقارنة بينها ولوحات أخرى لفنانين مختلفين، ويشير بعضهم إلى أن حجم إطار اللوحة صغير نسبياً، مقارنة برأس الفتاة، وهناك من يرى أن تلك خاصية فنية شائعة في اللوحات الاسكندنافية المعاصرة، واستخدمت في لوحات عدد كبير من فناني تلك الحقبة، مثل: روجير فان در وبيتروس كريستوس، وغيرهما.
في اللوحة يرتكز كوع الفتاة على درابزين غير مرئي، وهو يتوافق مع الحافة السفلية للإطار الحجري المطلي، حيث تعمل كخداع بصري، فيما يلاحظ المشاهد أن الفتاة تتزين بخاتم خطوبة متواضع نسبياً، مرصع بالياقوت والزفير، بينما تترصع قلادتها بجواهر حمراء وزرقاء أكثر، ويبدو غطاء رأس ماريا طويلاً، مع حجاب شفاف ينسدل خلف عنقها، ويرتكز للحظة على كتفها، أما ثوبها فهو أسود، أو بني في الأغلب، برقبة عريضة، ولكن عالية، وحواش من الفرو الأبيض مبطنة على الأكمام، وربما من أكثر الأشياء والعلامات التي تركز عليها اللوحة تلك العيون الجميلة الداكنة، والفم والذقن المدبب، وقد مشط شعرها للخلف وتبدو بمظهر نموذجي للجمال في ذلك العصر.