عاطف الغمري
وكأنّ هذين الاثنين اللذين شغلا أعلى المراكز السياسية في أمريكا، قد عاد إليهما الوعي، قبل وفاتهما بفترة قصيرة، ليعلن كل منهما خطأ ما كان يؤمن به ويدعو إليه، من تطبيقات للسياسة الخارجية لبلدهما.
حدث هذا المشهد في مؤتمر عام حضره جمهور كبير بمركز كارتر بولاية أتلانتا، وبمشاركة المتحدثين الرئيسيين وهما، مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية في فترة رئاسة بيل كلنتون، والرئيس السابق جيمي كارتر.
قبل ذلك بسنوات، وتحديداً في عام 1998، وفى جلسة نقاشية ب«معهد كاتو» للبحوث السياسية، تحدثت أولبرايت أثناء تبوُّئِها منصب وزيرة الخارجية وطرحت رؤيتها التي وصفت ب «مبدأ أولبرايت»، وقالت «إذا كنا نريد استخدام القوة، فذلك لإنقاذ أمريكا.. الدولة التي لا غنى عنها، ولأن عيوننا ترى أفضل مما يراه الآخرون. وتتبصر الخطر الذي يهدد الجميع. من هنا كانت الحرب أداة للسياسة الخارجية».
أمّا كارتر، فإن من كان ينفذ مبادئ سياسته الخارجية هو مستشاره للأمن القومي زيجنيو بريجيسكي، صاحب نظريات «قوس الأزمات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، وسياسات تفتيت الدول، واستخدامه جماعة «الإخوان المسلمين» للقيام بأعمال عدائية إرهابية في دول أخرى.
وهنا نتوقف أمام التقرير الذي نشرته «مؤسسة فولتير» الفرنسية للدراسات السياسية، والذي يقول: في عهد كارتر، وتطبيقاً لنظريات بريجنسكي، فقد شنت جماعة «الإخوان» حملة إرهابية استمرت لفترات في مدينة حلب السورية، وعمليات أخرى في مدينة حماه، والتي قدرت وزارة الدفاع الأمريكية ضحاياها بأكثر من 2000 قتيل، وغير ذلك من التطبيقات السياسية لنظريات بريجنسكى.
ثم حدث بعد ذلك بوقت طويل التغيير في مواقفهما، وهما خارج السلطة والنفوذ، ففي كلمة أولبرايت بمؤتمر أتلانتا أعلنت أن حرب العراق ستسجل في التاريخ كأسوأ كارثة ارتكبتها السياسة الخارجية الأمريكية. وهي الكارثة التي كان من نتائجها أننا خسرنا سمعة القوة الأمريكية كقوة طيبة وصالحة.
وتحدثت أولبرايت عن سياسة أمريكا تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وقالت إن أمريكا فشلت في البحث عن السلام هناك بمشاركة أمريكية، وفشلت في القيام بالجهد الكافي لتأييد الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وعاد مركز كارتر في فبراير/شباط 2007، لمتابعة هذا التحول في المواقف، بنشر مناقشة موضوعها السلام في الشرق الأوسط، وتضمنت آراء أولبرايت وكارتر عن احتمالات السلام في الأراضي الفلسطينية، وأن الاثنين كان لهما دور مستمر وعميق في المنطقة، وأن مركز كارتر للدراسات كان يركز اهتمامه على السلام للفلسطينيين.
وفى كلمة أولبرايت أمام المركز تعرضت لحكومة جورج بوش الابن، وقالت إنها ضيعت الكثير من السنوات والفرص في الشرق الأوسط، لأنها كانت تريد إبعاد نفسها عن استكمال جهود حلّ المشكلة بين إسرائيل والفلسطينيين. وهى الجهود التي كان الرئيس كلينتون قد بدأها، ولم تسمح له الظروف باستكمالها.
صحيفة «نيويورك تايمز» علقت على هذا التحول في المواقف بقولها: إن كارتر وكلينتون الذي كانت أولبرايت وزيرة للخارجية في إدارته، كان لديهما وعي بجذور المشكلات المستمرة في منطقة الشرق الأوسط.
إن تلك الرؤية التي انعكست على تغيير المواقف، اهتم ببحثها مركز الدراسات الدولية بجامعة جون هوبكنز، ولكن من زاوية أخرى اهتمت بمواقف تخص وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي السابق هنري كيسنجر، وقالت إن من ينتقدون كيسنجر في إدارته للعلاقات الدولية، لا يتجاهلون دوره المتميز، وهو ما ظهر في سنوات السبعينات، بإنهاء حرب فيتنام، وعودة العلاقات الطبيعية مع الصين، ودبلوماسيته المكوكية بين مصر وإسرائيل بعد حرب 1973.
كما أن صحيفة «نيويورك تايمز» نشرت دراسة تحت عنوان «جرائم كيسنجر في الجانب المظلم للسياسة الخارجية». وقالت إن في حياته جوانب ليست ظاهرة منها دعوته لقصف كمبوديا بالقذائف، رغم أنها ليست شريكاً في حرب فيتنام، وهو ما تسبب في مقتل أعداد كبيرة من المدنيين ممن لا يحملون السلاح. كما أنه اتهم بارتكاب جرائم إبادة، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وتشجيع تدمير دول مثل أنغولا، ومؤامرة الإطاحة برئيس شيلي سلفادور الليندي.
ثم جاء رصد التحول في موقف كيسنجر من الحرب، مقتصراً على حالة الحرب في أوكرانيا، وإن كان هؤلاء يرون أن كيسنجر اتخذ على الأقل موقفاً مخالفاً للموقف الرسمي للحكومة الأمريكية، وهو ما يحسب له بدعوته لإيقاف الحرب، والدخول في مفاوضات من أجل السلام. واعتبروا أن هذا الموقف يعد متغيراً عن مواقفه السابقة، وهو خارج دائرة السلطة والنفوذ.