كل قليل لا يضيع

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

أحب الكلام الشعبي، البسيط، غير المثقف، كلام اللسان العاري، إذا جازت العبارة.. في رواية «حنتش بنتش» للكاتب والرسام محمود عيسى موسى، وقد عدت إلى هذا الكلام بعد سبعة عشر عاماً على قراءة الرواية.. أما لماذا هذه العودة إلى رواية غريبة العنوان «حنتش بنتش»؟ فلأن مكتبة الشاب الذي كنّته قبل نحو عشرين عاماً.. تناديني، بذلك اللسان الشعبي، الفلّاحي، الذي نما عليه الشعر لكثرة تكرار كلمة «البلاد».. وهو، هذا الرسام ذو الاسم الثلاثي الأديان يكتب إهداء نقيّ السرّ والسريرة.. يقول «.. لم نكن أنا وأنت نعلم أن البلاد ستضيع، لكنّا، تعلّمنا أن كلام البلاد يجب أن لا يضيع..».

في كل بلاد أزورها أو أعرفها، أُصغي أولاً إلى كلام أهلها.. أُصغي إلى هوية اللسان الصوتية التي تحيلُ مباشرةً إلى شخصية ابن تلك البلاد.

لسان الأمريكي يختلف عن لسان الإنجليزي حتى ولو كانت اللغة واحدة، كما لسان الألماني يختلف كلياً عن الصيني، ولسان الإفريقي لا يشبه أبداً لسان الأوروبي.. وكلٌّ له لسانه، والبدو يقولون: «لسانك، حصانك»، ويضيف البدوي عن اللسان: «.. إذا أهنته أهانك.. وإذا صنته صانك..»، كأن لسان المرء هو كرامته بالذّات.

في البلد الواحد، ثمة أكثر من لسان.. لسان الشواطئي أو البحري، لا يشبه لسان الصحراوي الرملي، ولسان الريف، يختلف عن لسان المدينة، كما لسان الجبليّ، لا يشبه لسان ابن السهل والسهب والحقول.

ما الذي «يصنع» اللسان؟؟.. أو، ما الذي يصنع صوت اللسان؟؟.. أهي الحنجرة؟.. أهي الحبال أو الأوتار الصوتية؟؟.. أهو الفم؟ أهو الأنف؟؟

..هي كل ذلك، ومعها أيضاً.. الجغرافية.

كل لسان مُضافٌ إلى جغرافية بعينها، لا، بل، يخيّل إليك، أحياناً، أن كل جغرافية إنما هي مضافة إلى لسان..

صوت الجبل مدموغٌ في صوت الجبليّ.. غليظٌ ومكتملٌ وصريح، فيما صوت السواحلي أو الشواطئي، يشبه إلى حدّ كبير صوت الماء.. صوت الموجة، صوت أبيض، بخاصة، إذا استمعت إلى صوت غناء البحّارة..

ببساطة، شكراً إلى محمود عيسى موسى.. الصيدليّ، أو الخيميائي الذي صنع هذه الخلطة اللسانية، الكلامية، الصوتية، في روايته «حنتش بنتش»، وهو إذ يعكف على صناعته أو صنعته تلك، يتحول أحياناً إلى شاعر، ولكنْ، شاعر قليل الكلام لكي لا يضيع الكلام.

..كل قليل لا يضيع.. ويا للمفارقة أو يا للمطابقة، أن البلدان القليلة، الصغيرة، الجميلة، لا تضيع، وكلامها لا يضيع، لأنها، عادة مرسومة بالطول، تماماً، مثل بلادك يا أخي الرسام محمود عيسى موسى..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mxbj7a3w

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"