د. أيمن سمير
الولايات المتحدة حالة من «عدم اليقين» السياسي والاقتصادي لأول مرة في تاريخها؛ وذلك لأسباب كثيرة؛ منها: معدلات التضخم غير المسبوقة، وعدم وضوح أي أفق للحل السياسي في الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث تبدو واشنطن عالقة في تلك الحرب؛ إذ لا يستطيع البيت الأبيض التخلي عن أوكرانيا، وفي نفس الوقت لم تنجح كل المساعدات العسكرية الأمريكية والغربية في توجيه «ضربة قاضية» لروسيا، أو تحقيق «نصر استراتيجي» عليها.
لكن التفاصيل التي تدور حول الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، تزيد من «ضبابية» المشهد الأمريكي، وهو ما يجعل الولايات المتحدة تعيش على «صفيح ساخن» حتى 6 يناير/ كانون الثاني 2025، عندما يثبت الكونغرس الرئيس الفائز في انتخابات 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024؛ فالأمر لا يتعلق بمرشح قد ينجح أو يخسر في الانتخابات، لكن اتهام رئيس أمريكي سابق، ومرشح محتمل عن الحزب الجمهوري بنحو 78 تهمة جنائية، يصعب أن يمر مرور الكرام في ظل ما هو معروف عن «القاعدة الانتخابية الصلبة» التي يتمتع بها ترامب.
فأحداث 6 يناير/ كانون الثاني 2021، خير مؤشر على ما يمكن أن يصل إليه المشهد الأمريكي في الشهور القادمة، وهو ما يطرح سلسلة من الأسئلة، لعل أبرزها هل يستطيع ترامب على الرغم من كل هذه الاتهامات أن يواصل حملته الانتخابية؟ وكيف سيكون الأمر إذا نجح في الانتخابات ودين قبل إعلان النتائج في بعض أو كل التهم؟ وهل سيحكم وقتها من خلف القضبان؟ وما خيارات ترامب والجمهوريين للرد القانوني والسياسي على تلك الاتهامات؟ وإلى أي مدى يدفع تشويه صورة ترامب «بالكتلة الصلبة» للحزب الجمهوري للالتفاف حوله والتمسك به؟ وهل بات على الأمريكيين الاختيار بين رئيس كبير في السن أو مرشح ملاحق قضائياً أم أن هناك خياراً ثالثاً؟
- لا موانع قانونية
لا توجد أي موانع قانونية تحول دون مواصلة ترامب حملته الانتخابية سواء على المستوى الحزبي، أو بعد ذلك مع مرشح الحزب الديمقراطي، فما زال ترامب يتفوق على أقرب منافسيه، وهو حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس بأكثر من 47 نقطة، كما أن كل قضية أو اتهام جديد يزيد من رصيد ترامب السياسي والاقتصادي. فبعد أن جرى تصويره في سجن فولتون، في أتلانتا بولاية جورجيا، تبرع مؤيدوه بأكثر من 7.1 مليون دولار خلال أقل من 24 ساعة، ويكشف نمط التبرعات مدى قوة الحاضنة السياسية التي يتمتع بها ترامب؛ حيث إن 100% من تلك التبرعات، قدمها متبرعون صغار ما بين 4 دولارات إلى 31 دولاراً، وهذا أفضل أنواع التبرعات التي تكشف عن قوة وصلابة القاعدة الانتخابية لأي مرشح. كما أن مقابلة ترامب مع الصحفي الجمهوري تاكر كارلسون شاهدها أكثر من 295 مليون مشاهد في غضون أيام قليلة، وهو برهان جديد على ما يتمتع به ترامب من اهتمام من جانب المواطن الأمريكي. وتقوم خيارات ترامب في مواجهة جميع التهم، والوصول إلى البيت الأبيض على مجموعة من الخيارات؛ وهي:
- أولاً: «تسويق المظلومية»
الترياق الذي يغذي شعبية ترامب في صفوف المتأرجحين والمستقلين إضافة إلى الجمهوريين، هو نجاحه في «تسويق المظلومية»، وأنه مظلوم، ويجري اضطهاده سياسياً من جانب الديمقراطيين ووزارة العدل الأمريكية. ويدلل ترامب على مظلوميته بأنه ستتم محاكمته في 4 مارس/ آذار 2024 في قضية سعيه إلى تغيير نتائج الانتخابات في ولاية جورجيا، وتاريخ 4 مارس/ آذار، يأتي قبل يوم واحد من «الثلاثاء الكبير» في الخامس من مارس القادم؛ وهو اليوم الذي عادة ما تجري فيه الانتخابات التمهيدية في 10 ولايات كاملة، ويعد يوماً حاسماً للغاية في الترشح عن الحزب وصولاً إلى الانتخابات أمام المرشح الديمقراطي، لأنه في «الثلاثاء الكبير»، يحصل المرشح الفائز على نحو «ثلث» أصوات الحزب الجمهوري، كما أن الأسابيع الستة التالية ليوم «الثلاثاء الكبير» هي التي تحسم نحو 70% من أصوات الحزب الجمهوري. وبعد أن طرح فريق ترامب الدفاعي منتصف عام 2026 لإجراء المحاكمة، رفضت القاضية، تانيا تشوتكان وأصرّت على بدء المحاكمة في بداية مارس القادم، وهو أمر وصفه 86% من الجمهوريين بأنه قرار سياسي أكثر من كونه يعد قراراً قضائياً.
وأيضاً في إطار «تسويق المظلومية»؛ يؤكد ترامب دائماً، أنه تمت تبرئته من جميع التهم السابقة أثناء الانتخابات الرئاسية لعام 2016، ومنها تبرئته النهائية على سبيل المثال من تهمة التواطؤ مع روسيا، وعدم دفع الضرائب، وهي اتهامات كادت أن تعصف بحملته الانتخابية عام 2016، كما أن تهمة «شراء الصمت» تتعلق بقضية منذ أكثر من 17 عاماً، وتمت إثارتها في الانتخابات الماضية، وجرى عرضها أمام المحاكم في عام 2018، ولم تر فيها كل المحاكم ما يستوجب المساءلة أوالمحاكمة.
نفس السيناريو تردده حملة ترامب حول قضية الوثائق، خاصة أن المحققين وجدوا «وثائق سرية» في منزل الرئيس جو بايدن، والتي تركها في منزله في ديلاوير منذ أن كان نائباً للرئيس باراك أوباما، وعلى الرغم من ذلك لم توجه حتى الآن أي اتهامات إلى الرئيس جو بايدن، وتطرح حملة ترامب سؤالاً: لماذا تصر وزارة العدل على ملاحقة ترامب بينما بايدن المتهم في نفس القضية لا يتحدث عنه أحد؟
- ثانياً: «المنقذ»
نجح ترامب في تصوير نفسه بأنه هو المنقذ لأمريكا من كبواتها الداخلية والخارجية، فهو الذي يتباهى بالاقتصاد القوي عندما كان في البيت الأبيض، كما أن أغلبية الأمريكيين بمن فيهم جزء كبير من الديمقراطيين باتوا على قناعة بمقاربة ترامب حول التعامل مع الحدود الجنوبية للبلاد مع المكسيك، ناهيك عن تأكيد ترامب أنه سوف ينهي الحرب الروسية الأوكرانية في 24 ساعة، وكلها كلمات تجد صدى لدى كثير من الناخبين الأمريكيين.
- ثالثاً: صحة بايدن
نجحت حملة ترامب ومعها أغلبية الجمهوريين في جعل «صحة بايدن» قضية تتصدر الأخبار الانتخابية إلى جانب أخبار ترامب، ونتيجة لهذا النجاح قال 77 % من كل الأمريكيين في استطلاع مؤسسة «أسوشيتدبرس» أن بايدن «عجوز»، ولن يكون قادراً على ممارسة مهامه في البيت الأبيض حتى يناير/ كانون الثاني 2029؛ حيث سيبلغ وقتها 86 عاماً، وليس هذا فقط، فقد نجحت حملة ترامب في تشكيك الديمقراطيين أنفسهم في صحة رئيسهم، بعد أن قال نحو 65% من الديمقراطيين في نفس الاستطلاع إن بايدن بالفعل بات «عجوزاً» وغير قادر على مواصلة مسؤولياته لأربع سنوات أخرى، وهو ما يكشف نجاح ترامب في استغلال هفوات وعثرات بايدن في مختلف المواقف.
- رابعاً: «عزل بايدن»
في محاولة من جانب الجمهوريين للتخفيف من الضغوط التي تمثلها محاكمة ترامب، يرفع حلفاء ترامب شعار «الهجوم خير وسيلة للدفاع»، والتي تتمثل في الكشف عن مخطط جمهوري لمحاكمة وعزل بايدن من الكونغرس، وبعد أن كانت مواقف فردية جمهورية لعزل بايدن، بات الأمر في كل المؤسسة الجمهورية عندما أعلن كيفن مكارثي زعيم الجمهوريين في مجلس النواب أنه يعمل مع باقي المجلس لمحاكمة بايدن؛ حيث يتمتع الجمهوريون بأغلبية بسيطة في مجلس النواب. وعلى الرغم من إدراك الجمهوريين استحالة عزل بايدن في مجلس الشيوخ فإنهم يعتقدون أن إجراءات العزل والمرافعات القانونية والسياسية في مجلسي النواب والشيوخ سوف تشوه أيضاً صورة بايدن، ويكون في نفس «خندق الاتهامات» مثل الرئيس دونالد ترامب.
- خيارات الديمقراطيين
تقوم حسابات الرئيس بايدن والبيت الأبيض على مجموعة من الخيارات؛ وهي:
1- إرباك حسابات الجمهوريين؛ حيث إن الديمقراطيين يعتقدون أن المحاكمات الجنائية قد تزيد من شعبية ترامب داخل صفوف الجمهوريين، لكن في النهاية سوف يخسر الانتخابات في نوفمبر/ تشرين الأول من العام القادم، ويعتقدون أن المحاكمات سوف تعزز من كراهية الليبراليين وجزء من المستقلين، بما يخدم أجندة بايدن في الانتخابات العامة. وأنصار هذا التوجه يعتقدون أن ترامب لم يساعد الجمهوريين على كسب أي انتخابات منذ عام 2016، وكان آخرها النتائج الباهتة للحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2022.
2- لا أحد فوق القانون، يرفض الديمقراطيون الادعاء بأن محاكمة رئيس سابق قد تؤدي إلى اضطرابات سياسية، وأنه لا يوجد أحد فوق القانون، وعندما تثار قضية تشويه صورة الولايات المتحدة التي تحاكم رئيسها السابق، يؤكد الديمقراطيون بأن ترامب هو من أساء بالفعل لصورة أمريكا، وأن خضوع الجميع للقانون بمن فيهم ترامب هو الذي سيحسن من صورة أمريكا التي يخضع فيها الجميع للقانون.
3- تفكيك الدائرة المقربة من ترامب، نجح الديمقراطيون بالفعل في تفكيك الدائرة المقربة من ترامب، فأغلب الذين عملوا مع ترامب مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون، انقلبوا عليه، كما أن المحاكمات تستهدف أغلبية الفريق الذي عمل مع ترامب في انتخابات عام 2016 مثل المحامي رودي جولياني. ووصل الأمر إلى عائلة ترامب نفسها، بعد أن أعلنت ابنته ومستشارته إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر عدم الإسهام في الحملة الانتخابية لأبيها.
- هل سيحكم ترامب من خلف القضبان؟
كل المؤشرات القانونية تقول إن المحاكمات التي سوف تبدأ في 4 مارس/ آذار القادم، لا يمكن أن تنتهي قبل الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، لأن طبيعة النظام القانوني الأمريكي، يقوم على إعطاء الوقت الكافي لكل خطوة، كما أن طبيعة القضايا المتهم فيها ترامب، تحتاج إلى عشرات الشهود وآلاف الأوراق، ومن المستحيل عملياً إدانة ترامب أو الوصول إلى المحطة النهائية لأي قضية قبل نهاية 2024، وفي حال فوز ترامب بالانتخابات، فإنه سيتم إرجاء مواعيد المحاكمات لما بعد 20 يناير/ كانون الثاني 2029 عندما تنتهي ولايته.
المؤكد أن 70% من الناخبين الأمريكيين أكدوا أنهم يتمنون وجود مرشح ثالث، بعيداً عن ترامب وبايدن، ووصل الأمر بأن 48% يقولون إنهم يريدون مرشحاً بعيداً عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو ما يؤكد أن المشهد الانتخابي الأمريكي، يتغير بالكامل لمصلحة معادلة جديدة، يبدو أن الانتخابات القادمة هي من ستعلن عنها.