أحمد مصطفى
لم يتوقف الجدل منذ الإعلان عن اعتقال السلطات موظفاً لدى أحد نواب مجلس العموم البريطاني (البرلمان)، في مارس/ آذار الماضي، بتهمة التجسس لمصلحة الصين. ورغم نفيه تهمة التجسس إلا أن قضيته التي أعلن عنها هذا الشهر، أثارت دعوات بضرورة إعادة النظر في العلاقات مع بكين.
يتسق التضخيم الإعلامي البريطاني لقضية «الجاسوس الصيني» منذ تولي رئيس الحكومة السابق، بوريس جونسون، السلطة قبل سنوات. وزادت حكومات حزب المحافظين التي تلت استقالته، العام الماضي، من وتيرة ذلك التوجه الذي يعتمد المزايدة على الولايات المتحدة في استراتيجيتها لمواجهة الصين وروسيا.
بدا ذلك واضحاً بقوة، في الموقف من الحرب في أوكرانيا، حيث غالباً ما تجد الإنشاء الخطابي من لندن ضد روسيا أقوى من أي بلد آخر في حلف الناتو، بل حتى أقوى من أمريكا نفسها. وغالباً ما يتزامن ذلك مع مشاكل داخلية، خاصة اقتصادية، حيث يعاني الاقتصاد البريطاني من أسوأ المعدلات في كل شيء، مقارنة بأي من الاقتصادات المتقدمة الأخرى.
طبعاً جزء من ذلك هو محاولة بريطانيا إثبات أنها الحليف الأهم لأمريكا في أوروبا، والغرب عامة، يضاف إلى ذلك أن بريطانيا ليست مثل ألمانيا أو فرنسا، أو حتى إيطاليا، في اعتمادها على العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين. إلا أن كل ذلك لا ينفي تقديم مسألة الأمن على كثير من الاعتبارات، حتى في بريطانيا، رغم تدهور أوضاعها.
في المقابل، نجد الصين تتعامل بالمثل، وربما أكثر، لكن إجراءاتها يتم تناولها في الصحافة الغربية بقدر من المبالغة السياسية التي تطغى على أساسها الأمني. فأغلب العقوبات الصينية على شركات أمريكية وغربية، والتي تتم تغطيتها على أنها ردود فعل انتقامية على عقوبات وقيود أمريكية وغربية، تتم لأسباب أمنية.
ومن الإجراءات الصينية الأخرى، التقييد على المسؤولين حتى أقل المستويات، وعلى الأكاديميين وال،استشاريين في تعاملهم مع الأجانب. ويشكو الدبلوماسيون الغربيون في بكين من أنهم لا يستطيعون الحديث مع أحد وبالتالي لا يجدون «مادة» يرسلونها في تقاريرهم لعواصمهم الغربية.
تلك المخاوف الأمنية والاتهامات المتبادلة بالتجسس، وإن كان عنوانها «حماية الأمن القومي»، إلا أنها لا تتعلق بأمور عسكرية في الأغلب الأعم، إنما بالاقتصاد والأعمال. فمن غير المتصور مثلاً أن الصين ستتجسس على بريطانيا عسكرياً. أولاً، لأن الصين لن تحارب بريطانيا، وثانياً لأن القدرات العسكرية البريطانية لم تعد بالشكل الذي كان من قبل، وكل أمورها تقريباً مكشوفة، وليست بحاجة إلى زرع جواسيس.
قبل خمسة أعوام، في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، استهدفت واشنطن المديرة المالية لشركة هواوي الصينية العملاقة، وجعلت كندا تحتجزها إلى أن اطلق سراحها ضمن اتفاق أمريكي – صيني. كانت الملاحقة القضائية رسمياً بسبب تعامل الشركة مع إيران وخرقها لعقوبات أمريكية، لكن السبب الحقيقي هو أن شركة هواوي توسعت في شركات الجيل الخامس من شبكات الهواتف المحمولة 5G حول العالم بشكل أكل نصيب الشركات الأمريكية والغربية.
هناك قناعة أمريكية وغربية بأن الصين «سرقت» الابتكارات التكنولوجية الغربية، مع انتقال اغلب الشركات في العالم للإنتاج في الصين، وبالتالي، لا يجوز للصين أن تتقدم في هذا المجال. لكن الوقائع تؤكد أن الصين عملت على «توطين» التكنولوجيا وسارعت في الابتكار والتطبيق حتى تجاوزت مستوى المنافسة إلى التقدم على الغرب في بعض المجالات. لذا نجد أغلب عقوبات الإدارة الأمريكية الحالية على الصين تتعلق بمنع الاستثمار في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، الذي تتجاوز الصين فيه غيرها. وكذلك الضغط على شركات الرقائق الالكترونية للخروج من الصين وقطع العلاقات مع بكين.
كل هذه الصراعات في مجالات التجارة والأعمال، خاصة التكنولوجية، هي مجال عمل «الجواسيس»، إذا جاز الوصف. طبعاً هناك معلومات تتعلق بالسياسات والاستراتيجيات، لكنها أيضاً في ما يخص التجارة مع الصين والتعامل معها أو معاقبتها بإجراءات حمائية.
الفارق في حرب الجواسيس الجدد أنها اقتصادية وتجارية أكثر منها عسكرية وأمنية، هو أن الصين ما زالت بلداً تحكمه اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. وهناك تراث راسخ بين الشعب الصيني نفسه، بشأن أهمية مركزية الدولة، ودورها في قيادة تطور وتقدم البلاد. وهذا ما يجعل الغرب، مثل أمريكا وبريطانيا، في حالة انزعاج دائم من تجسس صيني لا يقابله تجسسهم على الصين، بالقدر نفسه.