الحفّار

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

على مدى خمسة أعوام، حفر مواطن سوري كهفاً تحت منزله في أحد الأرياف المنكوبة بحرب مفتوحة على الفقراء قبل غيرهم، أولئك الذين لا يملكون من رماد الدنيا سوى بيوت من الطوب والطين، وهو قال إن الكهف الذي حفره تحت بيته هو قبر. ملجأ مؤقت الآن لحماية أطفاله.

في هذه القصة التي رأيتها على التلفزيون، ثمة ما يرمز إلى أن الإنسان في أعلى درجات خوفه، إنما يجد طمأنينته وأمانه في الرحم الأمومي الأرضي الذي في حالة هذا السوري الفلّاح يتمثل في ما هو تحت الأرض، وليس فوقها..

ليس بالضرورة أن يكون هذا الرجل متعلماً أو «مثقفاً» لكي يدرك هذه الرمزية الوجودية التي جعلته يحفر في الأرض تحت بيته كي يتمكن أبناؤه وعائلته من البقاء على قيد الحياة في كهف. أو ملجأ، أو قبر..

سمّه أنت ما شئت. أمّا (الاسم الثقافي) الوحيد بالنسبة لهذا السوري، هو البقاء الأبدي تحت بيته. وبعبارة ثانية، تحت أبنائه.. تحت جناح أبنائه..

لم يحفر هذا الرجل كهفه أو قبره أو ملجأه على مدى خمس سنوات بدافع الانتماء، أو دافع «الوطنية» أو دافع «البطولة»،.. كل هذه المفاهيم (الثقافية)، وربما الأيديولوجية لم تخطر على باله مطلقاً أيضاً بأنه في نزوله إلى باطن الأرض يعكس تربية فكرية، أو أيديولوجية أو حزبية، لا بل، وبكل بساطة، كان يريد حماية عائلته بيديه.. بذلك الحفر الدؤوب على مدى خمس سنوات تحت الأرض، ولم يفعل شيئاً فوقها.. فوق الأرض التي ليست له في واقع الحال.. حاله.

بالقرب من ذلك الفلاح السوري الفقير، أي فوق الأرض، وفي مناطق محددة ومعروفة في (بلاده)، ثمة بيوت ليست أبداً مبنية بالطوب والطين، وبالطبع، ليس ثمة من حاجة للحفر تحت الأرض لتوفير كهف أو ملجأ أو قبر، فهنا حياة، وهناك حياة.

حياتان مختلفتان ومتناقضتان تماماً بالمعنى الفكري والتشكيلي والوجودي.. ذلك المعنى الثقافي الفخم الذي لا يفهمه ذلك الحفّار الفلّاح وهو «يبحش» الأرض بفأس واحدة، وكانت هذه الفأس كافية لزراعة مئات وربما آلاف الأشجار المثمرة في سوريا، إحدى بنات الهلال الخصيب..

قصة الحفّار السوري بكل امتثال لرمزيتها وإشاراتها التراجيدية، هي قصة الإنسان كلّه الذي يعود أخيراً إلى كهفه الأرضي، حتى لو كان طاووساً أو ضبعاً.. أو حتى نملة..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr4jfume

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"