الشارقة: أشرف إبراهيم
في ذاكرة كل كاتب مجموعة من الكتب التي شكّلت وجدانه وأثرت فيه بقوة، يتذكرها دائماً، وربما يعيد قراءتها بين الحين والآخر، حتى إن كثيراً من الكتاب يتمنى لو كان هو مؤلف أحد تلك الكتب، وفي هذا الملف من «الخليج الثقافي»، ننبش ذاكرة بعض الأشخاص للحديث عن تلك الكتب، ونرتحل مع دائرة واسعة من الأعمال الأدبية الخالدة، تشمل «العمى» لجوزيه ساراماغو، و«العطر» لباتريك زوسكيند، وثلاثية نجيب محفوظ، و«كائن لا تحتمل خفته» لميلان كونديرا، و«ألف ليلة وليلة».. إلخ. أعمال حاضرة دائماً في العقل، تتطلب أكثر من قراءة وتحليل، وتؤكد أن الكتب ملاذنا الدائم، وأن القراءة لحظة نتخفف فيها من ثقل الواقع.
في مراحل العمر المختلفة، قد يقرأ مبدعاً ما، كتاباً فيحاصره من كل ناحية، ويجد نفسه مأخوذاً به، وكأن عاصفة طرقت باب ذاكرته فيتمنى لو أنه كان كاتبه.. هكذا يطاوع الأدباء أنفسهم في ما يحبون من كتب فيستدعونها، ويطالعونها بنهم، يمشون خلف أشواكها، وأحزانها وأفراحها، وما يسكنها من خرافة أو حقيقة، فالكتب العظيمة كنوز لا يبليها الزمن، وقدرتها على الخلود في قلوب القرّاء، تفوق أي تصور، وعندما يتوحد كاتب ما مع آخر يرجو لو أنه كان قناص الفكرة من قبله، ويود لو أن الظروف تهيأت ليحل محله فيكون له السبق عليه في كل كلمة كتبها وكل خيال اجترحه.
مما لا شك فيه أن بعض الكتب تتمتع ببريق خفي، تخترق بخطوطها الفاصلة وكلماتها الذهبية عمق الروح وجدار الزمن، تؤثر في أصحاب الكلمة، فيغوصون في تفاصيل الكلمات، وتهزهم المعاني والأفكار والحكايات، والأفق الممتد للسرد بشاعريته وعذوبة مقصده، فما هذه الكتب وما كنهها لتملك على القارئ الحصيف من فئة الأدباء قلبه، وتجعله يتمنى لو كان هو الكاتب الأصلي؟ فكم هزت شجرة المعرفة عنفوان الأدباء والشعراء وحفظوا كتباً بأكملها، وتمنوا لو كان لهم السبق في تأليفها، ما يجعلنا نسهب في البحث عن كنه هذه الكتب وسيرتها ومادتها القيّمة، والأسباب التي تجعل أديباً ما يرجو لو كان هو مؤلفها وجامع حكمتها، والراوي بكل أنفة واعتزاز سيرتها.
أعمال نجيب محفوظ
في مسيرة الروائي علي أبو الريش الإبداعية هناك كُتب لا تنسى هزت شجرة معرفته، فعندما ظهرت أمامه انتابته بهجة غامرة فظلت في ذاكرته المعتقة تحمل وجوهاً وأسماء وأمكنة، وتروي حكايات بعيدة عن بشر حقيقيين، وهو لا ينسى براعة السارد ويقظته مع كل حرف كتبه، وفطنته حين يجعل الفكرة سيرة، والكلمات تروي مثل الماء الظمأ، فيود لو أنه كان هو مؤلف هذه الكتب التي أغنت روحه بالجمال؛ كونها لامست طبيعته الحرة في التعاطف مع آلام الإنسان وأحزانه، ومثل هذه الكتب كثيرة لا يزال يذكرها بشغف العارف تفاصيلها، بخاصة أنه لا يشبع من قراءاتها بين الفينة والأخرى، يطالعها بإحساس المحب وكأن ما روت عنه خرج في حقيقة الأمر من بنات أفكاره، هكذا يتذكر بشفافية رواية «بين القصرين» للكاتب العالمي نجيب محفوظ، وكيف أنه حين طالعه للمرة الأولى، شعر بأنه عثر على صندوق مملوء بالحكايات، فطغى الفرح عليه، وود لو أنه سبق «النجيب» في ما ذهب إليه في هذا الكتاب، ومن ضمن الكتب الأخرى التي حاصرته أيضاً بأصوات شخوصها، وروائحهم المعتقة، رواية «بداية ونهاية» - للمؤلف نفسه - فهذا الكتاب طارد خياله في كل مكان كان يذهب إليه، ما جعله يقول في نفسه: «أي عمر جديد أضافته لي مثل هذه الكتب وكيف استدرجتني إلى أن ملكت عليَّ حياتي».
«عمى» ساراماغو
عاش الأديب سعيد الحنكي تحت ظلال كتب كثيرة لم تزل تطل في وعيه ويقينه كنافذة من ضوء ورحيق، فهو يعد المؤلفات التي تجر القارئ المثقف إلى منطقة الشغف من الكنوز العظيمة، وكثيراً ما كان يسأل نفسه، لماذا تمنيت لو كنت أنا من كتب رواية «العمى» لجوزيه ساراماغو، فيكشف أنه استسلم لعذوبتها في السرد وتفاصيلها التي لا تنسى، وأنه لا يذكر عدد المرات التي طالعها من كثرة قراءتها، فهي من وجهة نظره، تعكس الواقع الذي تعيشه بعض المجتمعات من عمى فكري وجهل، وهو ما تصوره رمزية العمى في الرواية، وأن مثل هذا العمل الأدبي، يتماهى مع طريقة تفكيره في ضرورة توظيف السرد، لخدمة قضايا المجتمع، فضلاً عن أنه يذكر كتاباً آخر أثر في وجدانه؛ وهو ملحمة «الدون الهادئ» للمؤلف الروسي ميخائيل شولوخوف المشهورة في الآداب العالمية، والحائزة جائزة نوبل والتي استغرق الكاتب في كتابتها نحو 12 عاماً؛ حيث كان يود لو أنه هو الذي سرد تفاصيلها قبل أي كاتب آخر.
شكسبير
في ذاكرة الكاتب المسرحي صالح كرامة كتب لا يسقطها النسيان، ولا تغيب تفاصيلها عن روحه، فهي في داخله تحتفظ بأزمنتها ويعدها استثناء، وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة على قراءة مسرحية خالدة في محيط الزمن فإنه يستدعيها ويطالعها من جديد، كأنه يهنئ نفسه بها، خاصة أنها تعد من الروائع في الكتابة المسرحية العالمية؛ حيث كان يتمنى صالح كرامة لو أنه كان هو كاتبها ومجسد مأساتها، لكنه يكتفي بأنه أحبها كما أحب غيرها من المسرحيات الفائقة في التاريخ الإبداعي المسرحي، فهو على قناعة بأن الأعمال الأدبية الكبيرة تظل باقية في العقل صوتاً وصورة لا تتوارى خلف أكوام الكتب التي تصدر سنوياً بين رحى السنين؛ لذا فإن مثل هذه المسرحية لا يمكن أن تموت في داخله، لأنها حاضرة بكل سيرتها الفارقة في نفسه، وأنه يقرأ فصولها بين الحين والآخر، فكرامة منجذب لقراءة شكسبير، ويحب أعماله التي لا تزال راسخة في الآداب العالمية مثل الجبال الراسيات، فضلاً عن أنه يأخذ من كل كتاب يقرأه فكرته الفلسفية، ويتأملها على نحو ما، لكنه بالفعل يشعر بأنه منجذب لأعمال قليلة في فرادتها في الساحة الأدبية العالمية؛ لذا قد يقرأ كتاباً ويشعر بأن هناك رابطاً زمنياً بينه وبين ذلك الكتاب، وأنه يود في قرارة ذاته لو أنه هو المؤلف، وأنه يعتقد أن الاعتراف بذلك، هو تكريم للكاتب الأصلي الذي استطاع أن يكون مبهراً إلى هذا الحد.
«عطر» زوسكيند
وينجذب الكاتب السينمائي محمد حسن أحمد إلى راوية لم تزل تطل بنغمة سحرها في الحياة الثقافية، فهي تقف دائماً بصوتها العالي على قمة رأسه؛ إذ تعبر عن مقصد روحه حين يود أن يروي عن شخوص من خيال وأحوال وتحولات، وهي رواية «العطر» للمؤلف باتريك زوسكيند التي حولته إلى أحد أشهر الروائيين في العالم، فمثل هذه الأعمال التي تمزج بين الواقع والخيال، ويتطور فيها السرد إلى بقعة ضوء، فمن يقرأها يود أن يقفز بين السطور، فيلتهم أوراقها بعينه، لكي يلم بكل التفاصيل دفعة واحدة، هذه الرواية كان يود لو أنه سافر إلى زمنها وكان هو كاتبها، فهكذا تثير بعض الكتب بفتنها الطاغية، عقل الكاتب، ويقع في أسرها، وهو يلملم أطراف حكاياتها في روحه، فتنمو كلماتها، لتورق في نفسه، وتمنحه إحساساً جمالياً بعظمة السرد، وقوة سريانه في كل الأزمنة.
«أنشودة المطر»
ويتذكر الشاعر أحمد العسم كيف ذهب خلف قطار ديوان شعري عربي جذبه من محطة حياته إلى محطات أخرى تدور فيها ساعة العمر، لتروي عن تجربة وعن أحزان عتيقة، فدائماً تأخذه الرهبة عندما يطالع ديوان «أنشودة المطر» وكأن الشاعر حين كتب القصيدة التي تحمل اسم الديوان هي من بنات أفكار العسم الذي ظل طوال العمر شغوفاً بملامحها، أسير مفرداتها، فضلاً عن محبته العميقة للشاعر بدر شاكر السيّاب الذي ظلت حياته ملحمة من الكلمات، التي أدخلته إلى البوابات الواسعة في عالم الشهرة، ومنحته أيضاً المجد على الرغم من الآلام التي عصرت قلبه، ومحن المرض التي أودت بحياته، هكذا يعيش العسم مع ذكرياته مع هذا الديوان والقصيدة التي أسرت قلبه؛ حيث يظن أن تمني كاتب أن يكون مؤلف كتاب آخر لأديب مثله، هو من المفارقات في أزقة الحياة الثقافية ونجوى الذات في الرغبة والاشتهاء.
«بلدي» حمزاتوف
يستدعي القاص محسن سليمان بعض الكتب التي لامست وجدانه والتي استظل بها في حياته بما ازدحمت به من أفكار وما روت عنه من معاناة لا تتكرر في بنائها الأدبي، ومفاجآتها السردية وهي تصعد إلى ذرى الإنسانية وتستحضر تاريخاً مملوءاً بالمشاهد والصور وهي رواية «بلدي» لمؤلفها الشاعر الداغستاني رسول حمزتوف الذي يمتلك حساً مرهفاً وأسلوباً لا يضاهيه أسلوب؛ إذ إنه تتبع خطوط الرواية منذ الوهلة الأولى التي وقعت عينه عليها منذ زمن بعيد؛ حيث ظلت عالقة بتفاصيلها المثيرة في عقله؛ إذ كان يتمنى لو أنه كان كاتبها؛ حيث يرى أنه ثمة كتب لا يستطيع الأدباء أن يخفوا محبتها، والجهر بتأثيرها في نفوسهم، كونها حفرت بعمق مسارات إبداعية في الروح، وهو ما يجعلها تجلس على قمة الإبداع من وجهة نظره.
غيوم ميسو
بعض الكتب أخذت بيد الكاتبة أسماء الحوسني إلى فضاءات الجمال، فأسرتها بلغة من مداد القلب، فتعقبت أحداثها وتفاصيلها وعاشت اللحظات التي لا تشبه غيرها؛ إذ تشعر حين تطالع كتباً أن مرايا تلك الكتب تعكس أفكاراً غير تقليدية، فتتملكها أحاسيس مبهجة، فقد كانت تتمنى لو أنها هي مؤلفة كتاب «عائد لأبحث عنك» للكاتب الفرنسي غيوم ميسو، الذي يفلسف فكرة اللارجوع بما يكفي لقول الحقيقة كاملة، وفي إطار من الخيال المباغت، فمثل هذا الكتاب من وجهة نظرها، يمتلك كل أدوات الإبداع المغاير، وأنها حين قرأته شعرت بأن مثل هذه الأعمال هي التي يتوحد الكتّاب معها، كونها ترضي نفوسهم المسكونة بالجمال، والمتطلعة إلى كتابة نماذج أدبية تضاهي الأعمال العالمية الفريدة من نوعها؛ إذ ترى أنه من الطبيعي أن يكون هناك انجذاب من الكتّاب لأقرانهم من المبدعين فيسيرون على خطاهم، فيتولد إبداع من نوع آخر، وهي على غزارة ما قرأت، تشعر بأن ما أنتجه العالم من أعمال أدبية عظيمة ليس هيناً، لكن لكل أديب قارئ رؤيته التي تجعله يقبل على كاتب ما وكتاباته ويُعرض عن آخر في نفس الوقت.
اقرأ أيضاً: