د.باسمة يونس
على الرغم من كثرة المؤلفات التي تتصدر قائمة أمنياتي بأن أكون صاحبتها، فإنه لم يتمكن أي عمل من التفوق على كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي لم يكن مجرد مجموعة قصص مغامرات خيالية مبدعة؛ بل تمكن من توحيد ثقافات عدة تحت مظلته.
وبداية من تسميته مروراً بمجموعة شهيرة ومختلفة من الحكايات الشعبية العربية والفارسية وانتهاء بآخر ليلة فيه، يظل كتاب «ألف ليلة وليلة» هو الكتاب الذي غذى مخيلات أدباء العالم، ومنحهم الجرأة للمجازفة برواية قصص مغرقة في الخيال، وحكايات من عمق اللامستحيل.
ولم يتأثر العالم بكتاب قدر تأثره ب«ألف ليلة وليلة» الذي بدأ كحكايات شفوية سافرت حول العالم مراراً وتكراراً على مر القرون، وفي كل زمن نجده متصدراً الأفكار، مسيطراً على مخيلات الأدباء والقرّاء وأحلامهم بلا منافس.
كانت قصة «شهرزاد وشهريار» تمهد الطريق لمغامرة لا تنسى، والأكثر تشويقاً وتأثيراً على العقول والنفوس؛ لأنها حكاية الخيانة الفظيعة التي ارتكبتها زوجة «شهريار» فدفعت الملك الغاضب والمجروح للعبث بمصائر فتيات بريئات، وتصرف كرجل مهزوم يحاول تضميد جرحه بالزواج يومياً من فتاة، وقتلها في الصباح بلا رحمة، فمن هذا الذي لا يعتريه الفضول لقراءة خلفية كل حكاية سردتها «شهرزاد» وكيف استطاعت وقف نزيف جرح الملك وحقن دماء البريئات؟
لا يتوقف الأمر عند حدود سرد القصص؛ بل ما أظهرته «ِشهرزاد» من ذكاء في سرد قصص مملوءة بالحكمة، لأنها أرادت أن تجعل الملك يعيد النظر في موقفه بشكل لا شعوري، وهدفها الأساسي أكثر أهمية من القصص التي ترويها، وأسمى من مجرد تسلية عابرة، ويكفي أن تنتهي «الليالي» بتعليق يوضح أن خطة شهرزاد نجحت في إعادة الملك إلى صوابه، وامتلكت قلبه، وأنجبت له ثلاثة أبناء.
لقد برز تأثير «ألف ليلة وليلة» في عدد لا يقاس من الأعمال، وأضاف إلى الثقافة المشتركة في الشرق الأوسط وأوروبا وأماكن أخرى في العالم، مجموعة هائلة من الأفكار والقصص والرموز والشخصيات المتنوعة التي أمكن للجميع الاستفادة منها، واستغلالها في أكثر من عمل، إلى درجة أنها على الرغم من مرور عصور وقرون فإنها ما تزال تعيش في مخيلتنا، وتبعث الحياة في كل عمل تأثر فيه.
ولم يكن «ألف ليلة وليلة» مؤثراً في الأدب العربي والغربي فحسب؛ بل أثر أيضاً في كيفية تفكير الغرب في الشرق، وتفاعله معه؛ فالقصص تشركنا في الأفكار التي لا تزال تشغل بال ثقافتنا المعاصرة، وتذكرنا بأن العالم يتحدث بلسان واحد، عندما يتعلق الأمر بما يحدث وما نريده أن يكون.
إن الرسائل التي يقدمها لنا «ألف ليلة وليلة» رسائل أخلاقية، وتنطوي على قيم عالية؛ أهمها الإخلاص، فمنذ البداية سنفهم بأن الإخلاص هو القوة الدافعة التي تربط الناس ببعضهم، كما سنتعلم بأنه يجب معاملة الجميع، بغض النظر عن اختلافاتهم ومراكزهم في الحياة، باحترام، وإعطاء كل شخص مهما كان مستواه الفرصة؛ لإثبات قيمته.
ويقدم لنا الكتاب مفهوم القوة للتعلم والنمو والتسامح، وكيفية تغيير أذهاننا وطريقة تفكيرنا في حياتنا من أجل أن نتمكن من النجاح والتفوق على مصاعب الحياة.
والأهم من قراءة «ألف ليلة وليلة» إدراكنا من خلال قصصه المشوقة، أنه بإمكاننا أن نكون أشخاصاً أفضل، وأكثر تعاطفاً وتسامحاً مع الآخرين، ولا شك بأن حلم كل كاتب أن يترك ضمن إرثه كتاباً يستطيع أن يحيا لقرون، وأن يقرأ في كل مرة، وكأنما كتب للقرن الذي يقرأ فيه، فلا يمل ولا يسأم منه قارئه.