قلت للقلم: هل من منقذ للأسرة من حيرتها في البحث عن الطريقة التربوية المثلى لأطفالها؟ بعد سنوات دراسية تظهر المواهب والميول، فيقول بعض الآباء: ليتنا اخترنا تنشئة مختلفة. كنا نتمنى مساراً آخر.
قال: ما أخصب الأوهام، وأجدب الأحلام. الأمور بسيطة والناس يعقّدونها بتشتيت المساعي. ثمّة مفتاح ذهبي يفتح الباب على كل الدروب والآفاق، مهما تكن الاستعدادات. طريقة تربوية واحدة تؤهل الصغير لأيّ مشرب شاء سلك، فلا يهمّ ما ملك. قلت: مهلاً وإلاّ سلكوك في زمرة شاكر نفسه. لكن، أرني المفتاح الذهبي الذي تدّعي، حتى أنتقد معدنه، فينكشف الشائب والعائب، أو أقطع بأن قولك صائب.
قال: المنطلق التربوي السليم هو التنشئة العلميّة. هذا المفتاح الذهبي حلّ لكل مغلق. العلوم هي التي تنمو بها أجنحة الخيال. عند الانفجار العظيم لم يكن ثمة شيء غير حرارة لا نهائية وكثافة لا نهائية، حتى الذرات لم يكن لها وجود في ذلك الحساء الرهيب. ثم كان الهيدروجين. ثمّ تدرّج نشوء العناصر الكيميائية إلى آخر جدول ماندلييف. بعد قرابة أحد عشر مليار عام ظهرت الحياة على الأرض. وفي الثلاثمئة ألف سنة الأخيرة أطل الإنسان العاقل، وقبل ثلاثة آلاف سنة بدأ العلم يخطو، وفي السنوات القليلة الأخيرة بدأت الآلة تطمح إلى منافسة ذكاء البشر.
هل ثمة قصة أغرب من هذا الخيال العلمي بأعظم معاني العلوم؟ هذه هي القاعدة التي تنطلق منها مركبات الفيزياء والشعر، علم الأحياء والموسيقى، الكيمياء والرواية، الرياضيات والفلسفة، الهندسة الوراثية وفن العمارة. تريد الفلسفة؟ ستُغرقك العلوم في بحر محيط: ماذا كان قبل الانفجار العظيم؟ ما المادة السوداء والطاقة السوداء اللتان تشكلان 95% من مادة الكون، ولا يراهما أو يلتقطهما علم ولا علماء؟ ماذا بداخل الثقوب السوداء؟ هل ثمة أكوان موازية؟ الجدل في هذا لا ينتهي.
قلت: ذكّرتني باللقاء الذي جمع البابا جون بول الثاني بالفيزيائي ستيفن هوكينج، في النهاية قال البابا: «حسناً، اتفقنا، كل ما بعد الانفجار العظيم لكم، وكل ما قبله لنا»! طريف أن التربية العلمية تشحذ الخيال الشعري وتفتح له آفاقاً عرفانية بلا حدود. الموسيقيّ يجب أن ينشأ على أن الموسيقى رياضيات في إيقاعاتها، وفيزياء في موجاتها الصوتية. التشكيليّ يجب أن يدرك أن طبيعة الألوان فيزياء كمّ. ما أروع أن يقرأ المرء الآية الكريمة: «يُحيي العظام وهي رميم»، وفي ذهنه قيمة علمية إضافية إلى جانب الإيمان، وهي أن العلماء يعثرون على حمض نووي في تراب الكهوف عمره أربعون ألف سنة: «خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجسادِ».
لزوم ما يلزم: النتيجة القياسية: تربية واحدة لكل المشارب. كذلك الكون كله من نشأة واحدة.