القاهرة: وهيب الخطيب
لا تُعزز القراءة إبداعنا فحسب، بل تؤثر أيضاً في الطريقة التي نفكر ونشعر بها؛ إذ تتيح لنا اكتشاف مجموعة متنوعة من وجهات النظر. وطوال حياتنا، نتعرض للكتب بخاصة في طور تعلم مهاراتنا الأساسية مثل القراءة والكتابة. ومع تقدم العلوم والتكنولوجيا، ثمة ابتكارات تشير إلى أنها ستفيد الإنسانية على المدى الطويل.
في زمن التطورات التكنولوجية الفائقة، من المستحيل تجاهل شعبية الكتاب الرقمي، ومع ذلك، تعد الكتب الورقية وسيطاً لا يمكن مقارنتها بالخيارات الحديثة، ولجعل الأدب أكثر سهولة وملاءمة، تزايدت الكتب الإلكترونية وأدوات القراءة الحديثة في السنوات الأخيرة، والتي تتمتع بفوائد جمة، فهي وسيلة فعالة من حيث الكلفة للوصول إلى عدد لا يحصى من العناوين في متناول اليد.
ولا يفوت هنا أن نشير إلى أن البشرية تقدر التجارب الجديدة على نحو عام، بل تسعى إليها، إذ لولاها لما تطورت الإنسانية، أن تجرب يعني أن تعرف ومن ثم تتقدم. ومع كل ما أنجزه التاريخ الإنساني؛ خاصة في تطور أدوات النشر والتواصل المعرفي، لا يزال الكثيرون مغرمين بالكتاب الورقي، فالكتابة باستخدام قلم سلس عملية لها بريقها، ومغرية للكثيرين، ولها جوانبها العاطفية التي لا يمكن إغفالها.
وهناك شيء ما يتعلق بملمس الورق عندما تقلب الصفحة، وهي مسألة لا يمكن تحققها على شاشة اللاب توب أو القارئ الإلكتروني، ناهيك عن الرائحة الجذابة لكتاب مطبوع حديثاً أو كتاب أصفرّ ورقه من القدم.
ولأسباب عدّة نفسية وعاطفية وأحياناً عملية، لا تزال الكتب الورقية تزدهر في السوق، حتى في مواجهة التكنولوجيا الرائعة التي تجعل حياتنا أسهل كل يوم. لذا، إذا كنت مؤلفاً تتطلع إلى تسويق كتبك الخاصة وتقديم أفضل تجربة قراءة متاحة، فإن الكتب الإلكترونية تعد سوقاً مهماً يجب أخذه في الاعتبار، ولكن لا يمكنك تجاهل جاذبية الكتب الورقية.
أكثر فهماً
في تقارير ثقافية غربية عدّة، يتوقف الباحثون حول أسباب تفضيل الكتب الورقية، والتي يأتي في أولها تعزيز فهم القراءة، فثمة شيء يتعلق بحمل كتاب في اليد، يجذب العقل بطريقة لم تتمكن الأجهزة الرقمية من تقليدها. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها Science News Explore عام 2018 ودراسة ثانية أجريت عام 2014 في إيطاليا، أن فهم القراءة كان أقوى وأعمق مع الكتب الورقية مقارنة بالنص الرقمي.
وأجرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD دراسة دولية في العام ذاته، بحثت اختلاف درجات الاختبار بين الطلاب الذين يقرؤون في المقام الأول الكتب المطبوعة مقابل الكتب الرقمية. وكانت النتائج ساحقة، وأظهرت فوائد هائلة للطلاب الذين تمسكوا بالكتب المطبوعة.
ووفقاً لمقالة حول الدراسة التي أجراها موقع Kqed، وكانت العينة طلاب من خلفيات اجتماعية واقتصادية مماثلة، سجل أولئك الذين قرؤوا الكتب الورقية 49 نقطة أعلى في برنامج تقييم الطلاب الدوليين، المعروف باسم PISA. ما يعادل نحو 2.5 سنة من التعلم. وبالمقارنة، فإن الطلاب الذين يميلون إلى قراءة الكتب في كثير من الأحيان على الأجهزة الرقمية سجلوا 15 نقطة فقط أعلى من الطلاب الذين نادراً ما يقرؤون، وهو فارق أقل من سنة من التعلم.
جنباً إلى جنب مع درجات الاختبار، وجد أن الفهم العام يتحسن بشكل كبير مع الكتب المطبوعة. ووفقاً ل Science News Explore، في دراسة أجريت عام 2018 أيضاً، وحللت أكثر من 171000 قارئ، وجد أن فهم القراءة أفضل مع الإصدارات الورقية.
بشكل عام، الكتب المطبوعة توفر للقارئ قدراً أقل من التشتيت وهو ما يسعى إليه المؤلفون. فمع القراءة الإلكترونية، عادةً ما يتمكن المستخدمون من الوصول إلى الإنترنت، وبالتالي، فإن عوامل التشتيت لا تبعد سوى نقرة واحدة. وبحسب مقالة من Mental Floss، فإنه من المرجح أن يقضي القراء الرقميون وقتاً في البحث عن الكلمات الرئيسية بدلاً من فهم النص الذي يستهلكونه بالكامل.
وتشير المقالة إلى استطلاع أُجريَ على طلاب الجامعة. وفقاً للنتائج التي توصلت إليها، ادعى 67% من الطلاب أنهم قادرون على القيام بمهام متعددة من خلال القراءة رقمياً، بينما ادعى 41% فقط أنهم يستطيعون القيام بمهام متعددة أثناء قراءة المطبوعات.
منح شرعية
بالنسبة إلى المؤلفين الذين ينشرون لأنفسهم، يمكن اعتبار طباعة الكتب شكلاً من أشكال الشرعية. فإنشاء منتج يمكن للعميل حمله بين يديه يعطي وزناً حقيقياً له، ويمكن أن يجعله يبدو أكثر خصوصية. في حين أن الكتب الإلكترونية توفر القدرة على الاحتفاظ بمجموعة كاملة من الكتب على جهاز واحد وبكلفة أقل بشكل عام، ويعتقد العديد من القراء أن مزايا الكتب الورقية، مثل الاحتفاظ بالمعلومات، أكثر من مجرد حجب فوائد الكتب الإلكترونية.
أسباب عدّة تدفع بالمؤلفين إلى تفضيل الكتاب الورقي، إذ تعطي الأخيرة إحساساً ممتازاً بالتقدم، كما أن الشعور بإنهاء الكتاب وقلب الصفحة النهائية هو أمر مُرضٍ للغاية. وقد تُظهر الكتب الإلكترونية تقدماً من حيث النسبة المئوية المكتملة، لكن ليس لها التأثير نفسه مثل إعادة الكتاب إلى مكانه على رف الكتب بشكل مرضٍ.
وتخلق هذه العلاقة نقاشاً افتراضياً بين القراء والإصدارات التي يقرؤونها، وهي عملية محببة للكُتّاب والمؤلفين؛ إذ تدفع بالقراء إما إلى إعادة قراءة الكتاب أو الحديث عنه في أوساطهم الاجتماعية، وهو ما يوفر شيئاً من الانتشار، ناهيك عن الجانب العاطفي للمؤلفات الورقية.
وهناك شعور خاص جداً يرتبط بإعارة صديق رواية لا يمكن للقارئ تركها. كما بالنسبة إلى العديد من الناس، تعد المكتبة مكاناً آمناً ومريحاً يثير ذكريات جميلة، وهي مشاعر يصعب توفرها مع اللوحات الإلكترونية والهواتف وأجهزة الكمبيوتر. كما أظهرت دراسات أكاديمية غربية أن القراء وعلى نحو عام، يكوّنون روابط عاطفية ونفسية أكثر مع الكتب الورقية. ويمكن أن يكون هذا بسبب الملمس والرائحة والملاحظات التي يسجلونها في الهوامش والصفحات التي يستمعون إليها.
قريبة عن العين
واحدة من المزايا التي تتمتع بها الكتب الورقية هي إمكانية وضع الإصدار في رف على مكتبة منزلية، وفي مكان بارز، فمشهد المكتبات داخل البيوت جذاب. ولا تشكل أغلفة الكتب وكعوبها زخارف ممتازة فحسب، بل تشجع أيضاً على القراءة، الهدف الرئيسي للكُتّاب والمؤلفين.
وفي منزل العائلة، يُسمح للآباء بالتفاعل مع أطفالهم حول ما تعلموه. ومع ذلك، عندما تكون جميع كتب مؤلف ما موجودة على جهاز رقمي، فمن الممكن أن تكون بعيدة عن الأنظار، وطبقاً للمثل السائر «البعيد عن العين بعيد عن العقل».
أرباح بالمليارات
بالنسبة إلى الناشرين، وعلى الرغم من ارتفاع كلفة الطباعة، سواء بالزيادات الهائلة في سعر الورق أو أدوات النشر الأخرى، فإن الكتاب الورقي لا يزال مجالاً مفتوحاً للربح وتحقيق المكاسب المادية، إذ حققت صناعة الكتب خلال عام 2019 نمواً في جميع أنحاء العالم بمقدار 13 مليار دولار أمريكي، بزيادة تقترب من 6% في صناعة الكتب، ولولا جائحة كوفيد 19، لكان المتوقع أن تنمو الصناعة خلال عام 2020 بنسبة 2%.
ومع ما مر به العالم من حوادث خلال انتشار فيروس كورونا، توقع المختصون تراجع صناعة نشر الكتب من 92.8 مليار دولار في 2019 إلى 85.9 مليار دولار في 2020 بمعدل نمو سنوي مركب CAGR بنسبة سالب 7.5% فقط.
وحسب موقع prnewswire يعزى الانخفاض بشكل أساسي، إلى التباطؤ الاقتصادي في جميع البلدان بسبب تفشي كورونا، والتدابير المتخذة لاحتوائه، وهو ما يتعافى السوق منه حالياً، وينمو بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 2% اعتباراً من عام 2021 وصل إلى 91.4 مليار دولار أمريكي عام 2023.
ويعد نشر الكتب والمجلات والأعمال الأخرى جزءاً مهماً من الاقتصاد الإبداعي، ويسهم في ذلك تغيير طبيعة النشر بشكل عميق، في ظل التطورات التكنولوجية وابتكار أشكال متعددة من الكتب. وتضم الولايات المتحدة وحدها نحو 100 ألف ناشر، بحجم مبيعات يراوح بين 25 مليار و30 مليار دولار!
ومن جهة القراء، وعلى الرغم من أن الكتب الرقمية تبدو أرخص وأقل كلفة، فإن الكثيرين يفضلون الإصدارات الورقية لأسباب وقائية وصحية، إذ إن الشاشات تسبب إرهاق العين مع كثرة الاستخدام. وتوفر الإصدارات الورقية زيادة في الاحتفاظ بالمعلومات، ما يؤدي إلى درجات اختبار أفضل للقراء وتجربة أكثر إمتاعاً، وأيضاً إذا أراد القارئ مشاركة كتاب مع صديق، فهذه العملية بسيطة مثل تسليم نسخة له.
ويمكن أن تسبب الشاشات إجهاد العين وتعطيل دورات النوم، في حين تعد المؤلفات الورقية أفضل لصحة الكوكب، لأنها لا تحتاج إلى طاقة وعادة ما تكون قابلة لإعادة التدوير.
أحد أسباب إجهاد العين، وفقاً لموقع مايو كلينك الطبي، هو أنه عندما يحدق المرء في الشاشات، فإنه لا يرمش بقدر ما يفعل بخلاف ذلك. ما يسبب جفاف العينين ويُصعّب على القارئ الرؤية، إضافة إلى ذلك، تقول جمعية البصريات الأمريكية إن استخدام الشاشة يمكن أن يسبب متلازمة رؤية الكمبيوتر التي تظهر في إجهاد العين وعدم وضوح الرؤية.
عوامل مريحة
ولأن المؤلفين يسعون إلى انتشار أعمالهم، فإنهم بدؤوا يفكرون في العوامل المريحة للقارئ، والتحديق في الهاتف قبل النوم له العديد من الآثار الضارة. أولاً، يخبر الضوء الأزرق القاسي العقل البشري أن الفرد يجب أن يكون مستيقظاً ومتنبهاً.
ثانياً، الهواتف هي أجهزة اتصال، والشعور بأن مكالمة أو رسالة نصية أو بريداً إلكترونياً يمكن أن تأتي في أي لحظة تهيئ للاستعداد لحالة الطوارئ. ومن ناحية أخرى، فإن إحدى المزايا الرئيسية للكتب الورقية هي أنها تريح العقل قبل النوم.
وعندما يكون الفرد على متن طائرة أو قطار، قد لا يتمكن من الوصول إلى الشاحن. ولحسن الحظ، لا تتطلب الكتب الورقية أي طاقة لتشغيلها. وأيضاً، إذا تحول الجهاز إلى الدخول في وضع الطائرة أو فقد الاتصال بالإنترنت، فقد يفقد الإنسان القدرة على قراءة كتابه الإلكتروني، اعتماداً على النظام الأساسي الذي يستخدمه للقراءة.
بساطة
واحدة من أكبر وأهم فوائد الكتب المطبوعة هي أنها تُبقي الأمور بسيطة. ويمكن قراءتها في أي ضوء، دون الحاجة إلى القلق بشأن وهج الشمس أو انعكاسها. ويمكن طي الصفحات للحفاظ على مكان القارئ في الكتاب، خاصة إذا ما كان مؤلفاً أدبياً سردياً، ويمكن تدوين الملاحظات في الهوامش.