عبدالإله بلقزيز
يُشْبِه النّظر إلى الإيديولوجيا بما هي وهمٌ وتوهيمٌ النّظر إليها بما هي أسطورةٌ أو بديل محْدَث من الأسطورة يؤدّي وظائفَ الأخيرة من دون أن يُشاكِلَها في بنيتها أو في طابعها الغرائبيّ والسّحريّ، ولكن أيضاً من دون أن يمنع التّشابه بينهما الإيديولوجيا من أن تحافظ على صورتها الحديثة.
يحيل صاحب الإيديولوجيا، نحو نظرة تكامليّة محمّد سبيلا إلى المصادر الأساسية التي سلَّطت الضّوءَ على هذه العلاقة بين الإيديولوجيا والأسطورة: كلود ليڤي ستروس، الذي يلْحظ التّشابه بينهما في تأسيسهما معاً على أصولٍ ماضية تفسِّر ما يجري وتُضفي عليه المعنى، وإرنست كاسيرر، الذي يقيم تَلازماً بين المضمون السّحري الأسطوري ومقابِلاته في الأساطير السّياسيّة الحديثة؛ وداريوش شايغان الذي يناظر، من جهته، بين الإيديولوجيات الحديثة والميثولوجيات القديمة، ورولان بارت الذي ينتقد ميثولوجيات العصر، وميرسيا إلياد المنصرف إلى تحليل البنية الأسطوريّة للظّواهر السّياسيّة والحياتيّة المعاصرة، وجورج سوريل، الذي ينحو المنحى نفسه مشيراً إلى أساطير جديدة مثل الإضراب العام في الحياة النّقابيّة، ثمّ جورج بالاندييه، الذي لاحظ، في دراسته مجتمعات إفريقيا، ما كان في أساطيرها القديمة من إيديولوجيا وما صار في إيديولوجيّاتها الوطنيّة الحديثة من أسطورة... إلخ.
لا يجانب محمّد سبيلا الصّوابَ حين يُجْمِل التّماثلات القائمةَ بين الإيديولوجيا والأسطورة في وجوهٍ عدّة: في ما تشترك فيه الاثنتان من طابع دوغمائيّ مغلَق؛ وفي ما تتمتّعان به من قدرةٍ على تعبئة الوجدان (الفرديّ والجماعيّ)؛ ومن قدرةٍ على تزويد النّاس بالشّعور بالهويّة.
ويُشْبِه ما بين الإيديولوجيا واليوتوبيا أن يكون رديفاً لِما بين الإيديولوجيا والأسطورة. لبيانِ التّعالُق بينهما يستند محمّد سبيلا إلى مصدرٍ مرجعيّ في الموضوع هو التّأليف الخاصّ الذي وضعه كارل مانهايم في المسألة، وفيه مَيَّز مانهايم بين معنييْن للإيديولوجيا: جزئي سيكولوجي، يتمثّل في الطّابع الفرديّ لها، حيث النّاس يستخدمونها دفاعاً عن مصالح خاصّة، ومعنى اجتماعيّ يتعلّق بإيديولوجيا عامّة: إيديولوجيا حقبة تاريخيّة أو إيديولوجيا طبقة اجتماعيّة. غير أنّ الأهمّ من ذلك هو التّمييز الذي أقامه مانهايم بينهما؛ إذِ الإيديولوجيا، عنده، هي «منظومة الأفكار والقيم والتّمثّلات التي تحدوها الرّغبة في الحفاظ على الوضع الاجتماعيّ القائم وبالتّالي، فهي محافظة»؛ فيما اليوتوبيا: «مجموع الأفكار والتّمثّلات المتوجّهة نحو المستقبل. وعليه، هكذا كانت الحركات الاجتماعيّة والفكريّة الكبرى في التّاريخ تمرّ بهاتين اللّحظتين معاً: تبدأ الواحدةُ منها في شكل يوتوبيا، حتّى إذا ما تحقّقت واستقام لها وجودٌ، مالت إلى الحفاظ على نفسها والكفِّ عن التّطلّع إلى ما بعد، فصارت، بذلك، إيديولوجيّة.
هذه متشابِهات في مدلولات المفاهيم تلك يصادفها الباحثون في الموضوع، فتغريهم بالتّدقيق فيها لبيان مَوَاطِن الاشتراك في المعنى ومَوَاطن التّمايُز: تلك التي يقع الانشغال بها أكثر لأنّ بها يكون التّحديد والتّمييز؛ بحيث يَنْمَاز فيها المفهوم عمّا يتداخل معه من المفاهيم في معنى مّا جزئيّ، فتكُفّ المفاهيمُ تلك، حينها، عن أن تكون محضَ مُرادِفات له. مع ذلك، يمكن لأيّ دارسٍ للمفهوم أن يجد نفسه - أمام محدوديّة التّعريف النّظريّ المجرّد للمفهوم - أمام الحاجة إلى تجلية غموضه من طريق إلقاء ضوء البحث على مساحةٍ أخرى منه أرحب، وذلك بالانتقال بعمليّة التّفكير فيه من منطق الماهيات إلى منطق العلاقات.