د. أيمن سمير
هي جزيرة اللؤلؤ، كانت أول دولة تحصل على استقلالها في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، قبل أكثر من 220 عاماً، ومن هنا لعبت الدور الكبير في بلورة «الهوية الجديدة» لدول الكاريبي، وأمريكا اللاتينية، الرافضة لبقاء واستمرار الاستعمار،
وظلت لعقود طويلة رمزاً للثراء والاستقرار والسلام، وكانت قبلة ونموذجاً للباحثين عن هدوء الحياة، موقعها الاستراتيجي في مدخل الكاريبي جعل لها «مكاناً ومكانة»، خاصين في الحسابات الجيوسياسية بالمنطقة، كما أن مواردها الكثيرة والغنية حوّلتها إلى وجهة مفضلة لدى الكثير من أبناء أمريكا اللاتينية.
لكن كل ذلك تبدل في العصر الحديث، ولم تنعم باستقلالها عن فرنسا عام 1804؛ لأنه كان عليها أن تسدد «ديوناً نظير خروج الاستعمار» لمدة 122 عاماً كاملة. تحالف وتآمر عليها الجميع، وفضلاً عن تضررها بزلزالين عامي 2010، و2021 هناك الفساد السياسي، والانهيار الاقتصادي، والعصابات الإجرامية، وتجار السلاح والمخدرات، وزاد على كل ذلك أن زعماء العصابات، ومهرّبي البشر، والمخدرات، والسلاح، يشبّهون أنفسهم بروبن هود، وتشي جيفارا، وحتى غاندي، ونيلسون مانديلا.
في 24 مارس/ آذار من هذا العام، حدث التحول الأضخم في هذه الدولة بعد أن تم تهريب نحو 5000 من عتاة الجريمة من السجون، ومراكز الشرطة، وتحول هؤلاء إلى «بندقية للإيجار» في يد العصابات المسلحة التي باتت أقوى من الجيش والشرطة، وتملك أسلحة متقدمة حولت هذا البلد المسالم إلى دولة فاشلة، وزاد تهريب المجرمين من السجون، وعمّت الجريمة بعد أن حولوا الأحياء والمدن إلى «مناطق أشباح»، ليس فيها مكان للأمان والاستقرار، ولا يستطيع أن يمر مواطن من هذا الشارع، أو ذاك، إلا بعد أن يدفع للعصابات، أو يدين لها بالولاء، وباتت العاصمة بكل مؤسساتها، بما فيها المطار الدولي، تحت حصار العصابات التي قتلت رئيساً، وأجبرت رئيس وزراء على الاستقالة.
أتحدث عن «هايتي»، هذه الدولة التي كانت رائدة في كل شيء، في النصف الجنوبي بغرب الكرة الأرضية، وتتمتع بموقع فريد من نوعه، فهي قريبة للغاية من الساحل الأمريكي، على حدود ولاية فلوريدا الأمريكية، وباتت هايتي التي تبلع مساحتها نحو 27 ألف كلم، غارقة في الجريمة، والفراغ السياسي، وضياع الأمل، وهناك تخوّف في كل أمريكا اللاتينية أن تتحول الدولة الفاشلة إلى «عبء سياسي»، ليس على سكانها الذين يبلغ عددهم نحو 11.5 مليون نسمة فقط، بل على كل دول الجوار، وفي المقدمة منهم الولايات المتحدة الأمريكية التي يتهمها بعضهم بأنها لم تبذل جهوداً كافية لتعزيز السلام والاستقرار على البوابة الجنوبية الشرقية لولاية فلوريدا، رغم أن هايتي باتت قنبلة موقوتة لكل دول الجوار، بعد أن وصلت ديونها لنحو 6 مليارات دولار، وبات 75 % من سكانها تحت خط الفقر، فلماذا وصلت هايتي إلى هذا المنحدر؟ وهل من «مقاربة سياسية» يمكن أن تنتشلها من هذا المستنقع؟
- مشاكل متجذرة
منذ ظهورها على المسرح السياسي كدولة مستقلة أسهمت مجموعة من التطورات في تشكيل المشهد السياسي والأمني المتأزم في هايتي، وأبرز تلك العوامل هي:
- أولاً: الاستقلال المنقوص
رغم استقلال هايتي عن الاستعمار الفرنسي عام 1804 كأول جمهورية سوداء في أمريكا اللاتينية، فإن فرنسا رفضت الاعتراف باستقلال هايتي حتى عام 1825، واشترطت الحصول على عائدات مالية تصل قيمتها حالياً إلى نحو 25 مليار دولار، نظير الموافقة على الاستقلال، وظلت هايتي تدفع هذه الأموال لمدة 122 عاماً، ليس هذا فقط، فقد احتلت الولايات المتحدة هايتي في الفترة منذ عام 1915 حتى عام 1943، وظلت الولايات المتحدة، منذ ذلك التاريخ، تلعب دوراً كبيراً في صياغة تفاصيل الحياة السياسية، حتى ظهور العصابات في البلاد في بداية الستينات من القرن الماضي.
- ثانياً: العصابات
مشهد العصابات التي تسيطر اليوم على نحو 90 % من العاصمة بورت أو برنس، وباقي المدن الرئيسية، ليس جديداً، وله جذور تمتد لأكثر من 7 عقود، ففي بداية عام 1964 بدأ أول معالم تشكيل هذا المشهد، عندما قام الجنرال بابا دوك دوفالييه، بتأسيس مجموعة من العصابات والميليشيات ليفرض حكمه على البلاد، وكان رد الفعل لدى خصومه السياسيين تشكيل عصابات لمجابهة عصابات دوفالييه، وظل هذا الأمر مستمراً حتى مع العمليات السياسية والانتخابات المعاقبة، حيث ارتبطت الأحزاب السياسية ومجموعات النخب بالعصابات التي ظلت تحمي مصالح هذه الأحزاب والشخصيات النافذة، ما جعل هايتي تعيش في «دائرة» من العنف، والعنف المضاد، فلا يستطيع أي حزب طرح خطة أو رؤية للتخلص من تلك العصابات، لأنه يعتمد عليها، سواء في تأمين موارده المالية، أو حتى في حماية عناصره من الأحزاب والعصابات المنافسة، ورغم أن هايتي كانت تشهد انتخابات منذ عام 1988، فإن إفرازات هذه الانتخابات لم يكن لها أي صدى إيجابي، سواء على الأوضاع السياسية، أو الاقتصادية، أو الأمنية، وتعمقت كل يوم حالة «الدولة المأزومة»، وتجلّى ذلك في الزيادة غير المسبوقة في الانفلات الأمني، والقتل خارج القانون، والارتفاع غير المسبوق في معدلات الفقر والجوع، ما يدفع الشباب للانتماء إلى العصابات التي توفر لهم المأكل والمشرب والأمان من العنف الجسدي، ووصلت ذروة الاضطراب السياسي باغتيال الرئيس السابق جوفينيل مويز في يوليو/ تموز 2021 بعد اتهامه بعدم إجراء انتخابات عام 2019، وحتى عندما تولى من بعده رئيس الوزراء آرييل هنري، تم اتهامه من جانب خصومه السياسيين بأنه رئيس وزراء غير منتخب، وغير شرعي، وأنه منحاز لبعض العصابات على حساب العصابات الأخرى، ما دفعه للاستقالة في 11 مارس/ آذار الماضي، ليكتب بذلك فصلاً جديداً من الفوضى، وعدم الاستقرار السياسي الذي وصل إلى مرحلة «الشغور» في منصبَي الرئيس، ورئيس الوزراء.
- ثالثاً: عرض لمرض
تحليل المشهد السياسي في هايتي يقول إن المشاكل الحالية من فقر، وفراغ سياسي، واضطراب أمني، ما هي إلا «عرض لمرض»، والمرض هو «ضعف مؤسسات الدولة»، خاصة الأجهزة الأمنية، فعندما تكون الميليشيات أقوى من أجهزة الجيش والشرطة لا يمكن أن تكون هناك نتيجة مختلفة عن المشهد الحالي في هايتي، فعلى سبيل المثال ما تمتلكه «عصابة جي 9» من سلاح وذخيرة أقوى بكثير جداً، مما لدى عناصر الشرطة، ويتم تهريب الأسلحة خاصة الثقيلة والمتوسطة من الولايات المتحدة الأمريكية، ما جعل هذه العصابة تسيطر على ما يقرب من 90 % من العاصمة، والمدن، والموانئ الكبرى، الأمر الذي جعل الشرطة نفسها في كثير من الأحيان تراعي مصالح هذه العصابات التي تقتل من دون أي حساب، أو قضاء، ووفق التقارير الأممية، فإن عام 2023 شهد ذروة الانفلات الأمني بنحو 3 آلاف عملية قتل، ونحو ألفي عملية خطف وابتزاز، للحصول على الأموال، كما انتشر العنف الجنسي، حيث وقع ما يزيد على 1500 هجوم على النساء في 2023، ونزح نحو 420 ألفاً من العاصمة وحدها، وفق بيانات الأمم المتحدة، لكن أكثر الأوضاع مأساوية ما كشفه برنامج الغذاء العالمي، عندما قال إن نحو 70 % من سكان المناطق الريفية يعتمدون الآن على العصابات في توفير وتوصيل المساعدات الغذائية والطبية.
- روبن هود هايتي
يمثل انتشار العصابات وتجار المخدرات إحدى السمات الرئيسية للدول في منطقة الكاريبي، وأمريكا اللاتينية، لكن ما يجرى في هايتي يشكل «حقبة سوداء» في تاريخ كل المنطقة؛ حيث يخشى الكثيرون أن يتمدد نفوذ العصابات وتجار المخدرات أكثر، وأكثر، في هياكل الدول المجاورة، بخاصة في ظل تملك العصابات في هايتي إمكانات وموارد أكثر بكثير من الدولة نفسها، فعلى سبيل المثال، ما تملكه عصابات «جي 9» و«جي بيب» من عناصر مسلحة يساوي ثلاثة أضعاف ما لدى الشرطة من قوات.
ويدور صراع وجودي بين عصابة «جي 9» التي تضم تحالفاً من 9 عصابات، وتأسست عام 2020 بقيادة جيمي شيريزير، المعروف باسم «الشواء»، مع عصابة «جي بيب»، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأحزاب السياسية، وكانت ترفض بشكل قاطع استمرار الرئيس الراحل جوفينيل مويس، في الحكم، وتعمل العصابتان على كسب النفوذ، والسيطرة على الطرق والأراضي وطلب الفدية، ولا يستطيع سكان العاصمة الخروج من بيوتهم بسبب إطلاق النار المستمر بين «جي 9»، و«جي بيب»، وتعد «جي 9» أقوى بكثير من عصابة «جي بيب»، خاصة بعد ما جرى في مارس/ آذار الماضي عندما قاد ضابط الشرطة السابق وزعيم «جي 9» الشهير باسم «باربيكيو»، قوة ضخمة واقتحم السجون ومراكز الشرطة، وأخرج منها نحو 5000 عنصر شكلوا تفوقاً خاصاً ل«جي 9» على «جي بيب».
لكن أكثر ما يلفت الأنظار في شخصية زعماء العصابات في هايتي، أنهم يضفون على أنفسهم صفات المناضلين، فعلى جدران البيوت المتهالكة يشبّه أنصار «جيمي شيريزير» زعيم عصابتهم، بالثوري الكوبي تشي جيفارا، وبنصير الفقراء «روبن هود»، وفي أحاديث كثيرة وصف «جيمي شيريزير» ما يفعله بأنه يتشابه مع الأعمال الخالدة للزعيم الهندي غاندي، أو الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، ويقول عن نفسه بمنتهى الصراحة إنه «روبن هود الكاريبي»، وإنه يسعى لتكرار إنجازات فيدل كاسترو، وتوماس سانكارا، ومالكوم أكس، لكنه يقول إنه يختلف فقط عن مارتن لوثر كينج، بأنه يعتمد على «لغة البندقية»، وليس لغة الخطابات السلمية التي تمتع بها مارتن لوثر كينج، ويصور ما يقوم به بأنه «انتفاضة»، أو «ثورة» ضد الحكومة، وأن هدفه -بعد أن عانى وولد في حي فقير- هو حي دلماس- هو دعم ومساعدة الفقراء والمعدمين، لكن الأغرب في شخصية رجل العصابات القوي في هايتي «شيريزير» أنه كان يعمل في الشرطة، ومسؤولاً سابقاً عن تنفيذ القانون، وأنه شارك بالفعل، في فض الكثير من التظاهرات، وهو يقول إن العمل في العصابات بات أكثر ربحية من العمل في الشرطة الهايتية، ويطرح زعيم «جي 9» مقاربة سياسية للخروج بالبلاد من الفوضى، لكن هذه المقاربة تبدأ، وتنتهي بأن يكون للعصابات «مقعد متقدم» في صفوف أي مفاوضات قادمة، وهو ما يراه بعضهم «تقنيناً وشرعنة» للعصابات على المدى الطويل.
- «روشتة» للخروج
في ظل الوضع المعقد سياسياً وأمنياً واقتصادياً، في هايتي يمكن طرح «روشتة» للحل تقوم على مجموعة من المسارات، وهي:
- الأمن أولاً:
تحتاج هايتي قبل كل شيء، إلى دعم المؤسسات الأمنية، بخاصة الشرطة، لكن كسر حالة سيطرة العصابات وتجار السلاح والمخدرات، لا يمكن أن يتحقق من دون وجود قوات حفظ سلام دولية، وسبق لمجلس الأمن أن وافق في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على إرسال قوة حفظ سلام برئاسة كينيا، لكن المحكمة العليا في كينيا رفضت قرار الحكومة الكينية بإرسال قوات حفظ سلام لهايتي، وإذا ما قادت دولة كبيرة من أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل، قوة حفظ السلام في هايتي سوف يكون لها مصداقية كبيرة، كما تحتاج الشرطة إلى تدريب وأسلحة جديدة، وهذا قد يتم داخل هايتي، أو حتى في دول الجوار الكاريبي التي سوف تكون أكثر الدول استفادة حال عودة السلام والاستقرار لهايتي، وتحتاج الشرطة إلى إضافة نحو 30 ألف عنصر جديد، حتى تستطيع أن تقف في وجه رجال العصابات، لأنه في الوقت الحالي تضم الشرطة 9 آلاف عنصر فقط، في بلد يضم 11.5 مليون نسمة، وهو عدد قليل جداً ليس مقارنة بالتحديات الأمنية فقط، بل بعدد السكان أيضاً.
- ثانياً: تعزيز النظام القضائي
يشكل شعور العصابات وتجار المخدرات بقدرتهم على الإفلات من العقاب، أحد أهم الدوافع لارتكاب الجريمة في هايتي، ما يتطلب من المجتمع الدولي دعم النظام القضائي في هايتي، وتحذير رجال العصابات، وحتى السياسيين المرتبطين بالعصابات، من أن أي جريمة لن تمر من دون حساب حتى يمكن كسر دائرة العنف في جزيرة اللؤلؤ.
- ثالثاً: مؤتمر للمانحين
تحتاج هايتي إلى عقد مؤتمر دولي للمانحين، ويجري الحديث عن ضرورة مشاركة فرنسا، وكندا، والولايات المتحدة، والمكسيك، بجانب دول أمريكا اللاتينية في هذا المؤتمر، إضافة إلى البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ونادي باريس، من أجل توفير بديل اقتصادي للحكومة والمواطن، بعيداً عن عناصر الميليشيات التي تتحكم في جميع مصادر الاقتصاد، خاصة السلع الاستراتيجية الخاصة بالغذاء والدواء، لأن وجود هذا البديل الاقتصادي سوف يشجع الشباب للعمل مع الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، وليس رجال العصابات.
المؤكد أن ما يجري في هايتي ليس بعيداً عنا في المنطقة العربية، فكل المؤشرات تقول إن هناك علاقة بين العصابات الإجرامية في هايتي وأمريكا اللاتينية مع المجموعات الإرهابية والظلامية والتكفيرية في الإقليم العربي، والشرق الأوسط، وهو ما يقول بأن عودة الأمن والسلام لهايتي سوف يعود بالاستقرار على الأمن والسلم الدوليين، ويعزز من انتصار العالم على كل المجموعات الخارجية على القانون، سواء كانت عصابات إجرامية أو تنظيمات إرهابية.