تحقيق: محمد إبراهيم
نصف مشوار التميز في التعليم الجامعي، يكمن في ميول الطالب نحو التخصص الذي يختاره، إذ إن النظم التعليمية التي تصدرت المؤشرات العالمية في جودة مخرجاتها، تستند إلى رغبات ومهارات الطالب في مجال، أو تخصص بعينه، كمسار فاعل لإنتاج العباقرة، والعلماء، والمبدعين.
ومع بدء موسم التحاق الطلبة بالجامعات، تتجدد سنوياً إشكالية اختيار التخصص الجامعي، إذ إن هناك نقطة خلاف بين الآباء الذين ما زالوا يعيشون تطلعات الماضي بتخصصاته، والأبناء بقدراتهم، ومهاراتهم، وميولهم التي تنظر إلى المستقبل. وفي التحقيق التالي تناقش «الخليج» هذه الإشكالية، وآثارها في الطلبة، ومدى مواكبتها لمتطلبات سوق العمل المستقبلي، لاسيما في ظل التطورات المتوالية.
أكد عدد من الطلاب، أنهم يواجهون، غالباً، صعوبة في قرار اختيار التخصص الجامعي، بسبب ضغوطات الوالدين لاختيار تخصصات معينة، بناء على رغباتهم، وتطلعاتهم، من دون مراعاة ميول وقدرات ومهارات الطالب، فيما يرى عدد من أولياء الأمور أن رؤيتهم لمستقبل أبنائهم قد تكون الأعمق، والأدق، وفقاً لخبراتهم الحياتية، لكن في الوقت ذاته، تستحوذ على اتجاهاتهم تخصصات تحاكي الماضي، مع عدم دراية بالتخصصات والمهارات الجديدة التي يتطلبها سوق العمل.
في المقابل، يرى أكاديميون أن تطورات الوظائف شكلت ثورة هائلة في السنوات القليلة الماضية، وفرضت على الجامعات تطوير برامجها الأكاديمية، واستحداث تخصصات تحاكي المستقبل، وهذا يفرض على الآباء والأبناء درجة عالية من الوعي، والإدراك للمتغيرات، والاحتياجات المستقبلية لسوق الوظائف.
- تخصصات جديدة
البداية كانت مع تقرير حديث نشرته «الخليج»، قبل أيام، لخّص أحدث بيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي عن أهم التخصصات الجامعية والمهارات الأساسية، والاتجاهات المهنية المتوقعة عوائدها المالية، ما يضمن استعداد الخريجين جيداً للتنقل في تعقيدات سوق العمل المستقبلية.
وبحسب ما قدمه التقرير، لم تعد دراسة الطب والهندسة تخصصات القمة، كما كان في السابق، بل يشهد كلاهما شُعباً وفروعاً جديدة، تشكل تخصصات حديثة، تواكب تطورات التكنولوجيا في عصر التحولات، إذ تصدّر الأمن السيبراني قائمة التخصصات الجامعية الأكثر رواجاً عالمياً، ثم الهندسة النووية، والبرمجيات، وعلوم الكمبيوتر المتقدمة، وفيزياء الهندسة النووية، وهندسة الإلكترونيات، وتكنولوجيا المعلومات، والاقتصاد، فضلاً عن أصحاب هذه التخصصات الأعلى دخلاً مادياً، والأكثر طلباً على مستوى العالم.
تفاصيل التقرير حسمت الجدل بين الآباء والأبناء، وكشفت عن التطورات التي طالت نوعية التخصصات الجامعية، ومدى ارتباطها باحتياجات سوق العمل، والعائد المادي، وهنا ينبغي على أولياء الأمور إعادة النظر في تطلعات الماضي التي لم يعد لها مكان بين تطورات الحاضر، ومتطلبات المستقبل، وأن يتركوا للأبناء فرصة اختيار التخصصات التي تناسب مهاراتهم، وميولهم، وقدراتهم.
- الآباء والأبناء
أكد عدد من خريجي العام الأكاديمي الجاري (2023-2024)، كل من: سامر عبد الله، وحمدان آل علي، وسمر ميزار، وحنان مروان، أن هناك صراعاً دائماً بين الآباء والأبناء لتحديد التخصص الجامعي المناسب، إذ يطمح الوالدين إلى أن يصبح الأبناء أطباء، أو مهندسين، في حين أن الأبناء أنفسهم لديهم ميول، ومهارات، وقدرات في تخصصات أخرى قد تجعلهم عباقرة مستقبلاً.
وأضافوا أن هذا الخلاف يؤدي إلى مواجهة الطلاب صعوبة في اتخاذ هذا القرار، بخاصة مع وجود تعنت الأهل، ومقترحات الأقارب، وتدخل الأصدقاء، ما يُحدث نوعاً من الفوضى التي تشوش على اختيار الطالب، إذ تعددت الاختيارات والتخصصات بحسب وجهة نظر كل طرف، من دون مراعاة ميوله، وقدراته.
وأفادوا بأن الطالب مسؤول عن تحديد التخصص الجامعي الذي يناسب ميوله، وقدراته، ومهاراته بدقة، وعلى أولياء الأمور إدراك ما يحدث من تطورات في المشهد التعليمي الجامعي، لاسيما وأنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بسوق العمل، فضلًا عن التخصصات الجديدة التي باتت تشكل معارف حديثة غيّرت مواصفات الخريجين، ومسميّاتهم الوظيفية.
اقرأ أيضاً:
- تأمين المستقبل
يقسم مجتمع أولياء الأمور إلى شريحتين في هذا الخلاف، إذ ترى الشريحة الأولى وتضم: «مراد.م، وميسرة.ث، وسامح.ع، وعلياء.ك»، أن خبرات الوالدين جعلتهم الأكثر وعياً، وإدراكاً بالتخصص الجامعي المناسب للأبناء، وينبغي الانصياع من دون نقاش، حيث إن الوالدين لا يطمحون إلا إلى مصلحة أبنائهم، وتأمين مستقبل واعد لهم.
فيما أجمعت آراء الشريحة الثانية التي ضمت كلاً من: محمد عبد العزيز، وأحلام بيومي، وعلا راشد، وأيهم عبد الرزاق، على أهمية التشاور وإعلاء لغة الحوار بين الآباء والأبناء في شأن اختيار التخصص الجامعي، إذ يحدد مستقبل الأبناء، علمياً ومهنياً، مشيرين إلى أهمية الوعي التام بتطورات التخصصات وتغيّرات سوق العمل، واحتياجات الوظائف.
- تخصصات القمّة
في استطلاع آراء المرشدين الأكاديميين، أكد كل من: صادق مهران، وسميح علي، ومحي حسين، وعلا عمران، أن هناك تفاوتاً في نسبة الوعي لدى أولياء الأمور حول التطورات المشهودة في التخصصات الجامعية، ومدى ارتباطها بسوق العمل، وهناك شريحة كبيرة منهم ما زالت تعيش عصر تخصصات القمة، مثل الطب والهندسة، التي تسبقها الآن تخصصات أخرى حديثة مثل البرمجيات، وعلوم الحاسوب، وهندسة الإلكترونيات، وتكنولوجيا المعلومات.
وأشاروا إلى أهمية أن يتحرى أولياء الأمور الدقة عند البحث عن الجامعات، للتأكد من أنها معتمدة، من خلال وزارة التربية والتعليم التي تقدم معلومات متكاملة ووافية عن الجامعات المعتمدة، وتخصصاتها المعترف بها، فضلاً عن التخصصات الأكثر رواجاً وطلباً في سوق العمل.
وأجمع الأكاديميون على أنّ اختيار التخصص الجامعي قرار مصيري في حياة الطالب، ويجب أن يُبنى على أسس سليمة تضمن مستقبله المهني المُشرق، إذ شدد الدكتور محمد عبد الظاهر، الخبير في الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي، على ضرورة مراعاة جملة من الضوابط عند اختيار التخصص، أبرزها ميول الطالب، وقدراته، إذ يُعد هذا العامل الأساسي في اختيار التخصص، والذي يُساعده على الاستمتاع بدراسته وتحقيق التميز فيها.
وأكد أهمية مراعاة الآباء والأبناء متطلبات سوق العمل عند اختيار التخصص، لضمان حصول الأبناء على فرص عمل مناسبة بعد التخرج، فضلاً عن إمكانات الطالب المادية، حيث يجب على الطالب أن يُراعي قدراته على النفقات عند اختيار التخصص، لاسيما المتعلق بتكاليف الدراسة في بعض التخصصات التي قد تكون مرتفعة.
وأفاد بأن المجتمعات تعيش الآن عصر التحولات والتطورات، وهذا يتطلب من الأهل والأبناء البحث المتأني عن التخصصات الجامعية المختلفة المتاحة، والتعرف إلى متطلباتها، بما في ذلك الدورات الدراسية التي سيحتاج لدراستها والمهارات التي سيكتسبها، فضلاً عن الالتزام بحضور فعاليات التوجيه المهني، للحصول على معلومات حول التخصصات الجامعية المختلفة، ومتطلبات سوق العمل ومستجداتها، مؤكداً حاجة بعض أولياء الأمور إلى الإرشاد والوعي لمستجدات التخصصات، وتطورات سوق العمل.
- آثار سلبية
رصدت الدكتورة مروة عمارة، مستشارة القيادة التربوية، الآثار السلبية التي قد تنعكس على الأبناء نتيجة اختيار التخصص الجامعي بناء على رغبات الأهل، إذ تولد لديهم الشعور بالإحباط، وفقدان الدافع للدراسة، ما قد يؤدي إلى تدني التحصيل الدراسي. وأضافت أن الطالب سيضطر للعمل في مجال لا يرغبه بعد التخرج، ما قد يؤدي إلى شعوره بعدم الرضا عن عمله وحياته المهنية.
وأكدت أهمية أن يؤدي الآباء دوراً إيجابياً، في مساعدة أبنائهم على اختيار التخصص الجامعي المناسب.
- تطورات الوظائف
أكدت الخبيرة التربوية آمنة المازمي، أن تطورات الوظائف شكلت ثورة هائلة، في السنوات القليلة الماضية، بفعل مستجدات التكنولوجيا، التي تُلقي بظلالها على طبيعة الوظائف ومهاراتها المطلوبة، ما يتطلب إتقان مهارات استخدامها بكفاءة، مثل البرمجة وتصميم المواقع الإلكترونية، وتحليل البيانات وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وشددت على أهمية تعزيز لغة الحوار بين الآباء والأبناء عند تحديد واختيار التخصص الجامعي، مع مراعاة ميول ومهارات وقدرات الطلبة.