واشنطن - رويترز
عندما فكرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمرة الأولى في إصدار أمر للجيش الأمريكي بإنشاء رصيف عائم قبالة ساحل قطاع غزة في أواخر عام 2023 لإيصال المساعدات، لم يتم التعامل مع الأمر على أنه أولوية.
تعرضت الولايات المتحدة وقتها لضغوط لتخفيف الأزمة الإنسانية في القطاع الفلسطيني الذي تمزقه الحرب، وهي أزمة فاقمها إغلاق إسرائيل للعديد من المعابر الحدودية البرية، وبالتالي اتجهت الأنظار لتسليم إمدادات الإغاثة الإنسانية بحراً كحل محتمل.
وقال مسؤول أمريكي سابق وآخر حالي، إن الأميرال كريستوفر جرادي، نائب رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، صاحب الخبرة البحرية الطويلة، أبلغ اجتماعاً أنه يشعر بقلق بالغ من أن البحر قد يصبح هائجاً للغاية؛ بحيث لا يتمكن أي رصيف من توصيل المساعدات الإنسانية، وعرض أمام الاجتماع كل المخاطر التي يراها مرتبطة بالطقس.
ولم تظهر الفكرة مرة أخرى إلا في أوائل 2024، عندما أصبح الوضع في قطاع غزة أكثر بؤساً مع تحذير منظمات إغاثة من أن مجاعة واسعة النطاق بين المدنيين الفلسطينيين تلوح في الأفق.
وقال مسؤول كبير سابق في إدارة بايدن: «وصلنا إلى نقطة بدا فيها من المناسب تحمل مزيد من المخاطر؛ لأن الاحتياج بات ضخماً للغاية».
لكن ما نتج عن تلك النقاشات والقرارات خلال تنفيذ مهمة الرصيف العائم المؤقت لم يسر على ما يرام.
جرى التنفيذ بمشاركة ألف جندي أمريكي؛ لكن الرصيف لم يوصل إلا قسماً ضئيلاً من المساعدات التي تعهد بتسليمها، رغم أنه تكلف ما يقرب من 230 مليون دولار.
- الحظ العاثر وسوء التقدير
كما تعرض الرصيف العائم المؤقت منذ بداية العمليات للحظ العاثر وسوء التقدير، بما شمل نشوب حريق وسوء أحوال الطقس والمخاطر على البر من المعارك التي تدور بين إسرائيل وحركة حماس.
واعترف بايدن، بعد أن تعهد «بزيادة ضخمة» في المساعدات، بأن الرصيف العائم لم يرق إلى مستوى تطلعاته، وقال للصحفيين في 11 يوليو/تموز «كنت آمل أن يكون ذلك أكثر نجاحاً».
ولم ترد أنباء من قبل عن المناقشات الداخلية بشأن رصيف غزة، بما في ذلك الخيارات المستبعدة لنشر قوات في القطاع لفترة وجيزة.
وكانت مهمة الرصيف، التي انتهت رسمياً الأسبوع الماضي، الأكثر إثارة للجدل من بين محاولات الجيش الأمريكي للمساعدة في احتواء تداعيات الحرب بين إسرائيل وحماس التي اندلعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد أثارت انتقادات من معارضين لبايدن من الجمهوريين والعديد من موظفي الإغاثة الحاليين والسابقين.
ويسلط هذا الجهد الضوء أيضاً على الأزمة الإنسانية في قطاع غزة والصعوبات الجمة التي يواجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإنهاء الحرب، وهما أمران تسلط عليهما الضوء خلال زيارته لواشنطن هذا الأسبوع.
وأحالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) الإجابة عن الأسئلة ذات الصلة بالرصيف العائم إلى مضمون تصريحات أدلى بها نائب الأميرال براد كوبر، نائب قائد القيادة المركزية الأمريكية في إحاطة في 17 يوليو/تموز، وفي تلك الإحاطة، قال كوبر إن المهمة كانت ناجحة؛ حيث جرى تسليم أكبر كمية من المساعدات على الإطلاق إلى الشرق الأوسط.
ووصف مايك روجرز، وهو النائب الجمهوري الذي يرأس لجنة الرقابة العسكرية في مجلس النواب الأمريكي، الرصيف بأنه «مصدر إحراج».
وأضاف لرويترز: «الرصيف هو نتيجة حسابات سياسية سيئة ومغلوطة من إدارة بايدن».
- لا قوات على الأرض
مع تصاعد المخاوف في 2023 إزاء الأزمة الإنسانية بغزة، كُلِّف كورتيس ريد كبير موظفي مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض وقتها بتكوين مجموعة عمل مع أجهزة ووكالات حكومية مختلفة لبحث سبل زيادة المساعدات إلى القطاع.
وقال المسؤول السابق الكبير: «كان هناك طلب من كل الأجهزة والوكالات بأن تضع كل ما لديها على الطاولة». ثم بدأ البنتاغون بحث الخيارات.
ورداً على طلب للتعليق، أقر مجلس الأمن القومي بوجود مناقشات بين الأجهزة والوكالات الحكومية بشأن خيارات محتملة للسياسة حيال الأمر.
وقالت أدريان واتسون المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي: «بفضل هذا العمل، تمكنا من تعزيز تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة مستخدمين كل أداة ممكنة».
وذكر ريد أن الجنرال مايكل «إريك» كوريلا قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي اقترح في البداية عندما أطلع وزير الدفاع لويد أوستن على تفاصيل تنفيذ مهمة الرصيف، أن يتضمن الأمر إرسال عدد محدود من القوات الأمريكية للوجود على الأرض بشكل مؤقت لربط الرصيف بالشاطئ.
وقال ريد ومسؤول أمريكي حالي إن أوستن كان على علم بأن البيت الأبيض يعارض نشر قوات أمريكية في قطاع غزة، وإنه طلب من كوريلا إعادة صياغة تفاصيل تنفيذ المهمة.
وأضاف ريد أن كوريلا وضع خطة لتدريب القوات الإسرائيلية على تركيب الرصيف على الشاطئ، ونفذت القوات الإسرائيلية الخطة في وقت لاحق.
وأحال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزارة الدفاع، أسئلة رويترز بشأن الرصيف إلى الجيش الأمريكي.
ورفضت القيادة المركزية الأمريكية التعليق على الأمر بشكل رسمي، كما نفى مسؤول دفاع أمريكي، طلب عدم ذكر اسمه، الرواية وقال: «نشر قوات على الأرض لم يكن أمراً مطروحاً على الإطلاق».
وقال مسؤولون حاليون وسابقون إن القيادة المركزية كانت واثقة جداً بنجاح مشروع الرصيف.
وتابع ريد قائلاً: «كانت القيادة المركزية الأمريكية والجنرال كوريلا يقولان من اليوم الأول وباستمرار» نستطيع أن نفعل هذا.
وواجه الرصيف العائم أول حظ عاثر في 11 إبريل/نيسان، حركات سفينة حربية تابعة للبحرية كانت تنقل جزءاً من منظومة الرصيف إلى البحر المتوسط.
وتمكن الطاقم من إخماد الحريق لكن اضطرت السفينة إلى العودة إلى الولايات المتحدة.
- أمواج عاتية
أما الطقس فقد كان هو المشكلة الأصعب.
جاءت تحذيرات مبكرة من الصعوبات التي قد تواجهها القوات الأمريكية بسبب هياج البحر في الصيف الماضي، عندما حاولت القوات الأمريكية تركيب رصيف على شاطئ أسترالي خلال تدريب عسكري.
وقال ضابط عمل بشكل مباشر في ذلك التدريب العسكري على تركيب الرصيف لرويترز إن البحر كان هائجاً للغاية.
وفي نهاية المطاف، لم يتمكن الجنود من ربط الرصيف مباشرة بالشاطئ، واضطروا إلى استخدام قوارب لنقل الإمدادات من نهاية الرصيف العائم إلى الشاطئ.
ويقر مسؤولون أمريكيون بأن أحوال الطقس في البحر المتوسط شكلت مصدر قلق لهم، لكنهم لم يكونوا مستعدين لمدى اضطراب الظروف البحرية التي اتضح أنها أسوأ من المتوقع.
وقال مسؤول دفاع أمريكي بارز: «التوقعات التي كانت لديهم هي أن حالة البحر ستكون هادئة نسبياً حتى شهر سبتمبر/أيلول».
لكن الأمواج كانت عاتية لدرجة أنها كسرت الرصيف بعد تسعة أيام فقط من بدء تشغيله في 16 مايو/أيار، والضرر كان بالغاً لدرجة أن الرصيف كان يجب أن ينقل إلى ميناء أسدود الإسرائيلي لإصلاحه.
ولم تكن هذه الواقعة استثناء، بل كانت الوضع الطبيعي تقريباً؛ نظراً لأن الأحوال الجوية السيئة عطلت تشغيل الرصيف العائم وقلصت مدة عمله لتقتصر على 20 يوماً فقط، وهي نصف المدة التي استغرقها نقل الرصيف بأكمله عبر البحر إلى قبالة قطاع غزة.
ورغم عدم وقوع أي وفيات أو هجمات مباشرة معروفة على الرصيف، أصيب ثلاثة جنود أمريكيين أثناء دعمهم للعمليات في وقائع غير قتالية، واستدعت حالة أحدهم نقله للعلاج وهو في حالة حرجة.
- مبالغة في تقدير قدرة التوزيع
ثبت أيضاً أن توصيل الطعام ومستلزمات المأوى والرعاية الطبية التي جرى جلبها إلى الشاطئ عبر الرصيف كان أصعب من المتوقع.
وسعى الجيش الأمريكي إلى إرسال ما يصل إلى 150 شاحنة يومياً من المساعدات القادمة من الرصيف.
ولكن نظراً لأن الرصيف عمل لمدة 20 يوماً فقط، يقول الجيش إنه نقل ما مجموعه 19.4 مليون رطل فقط من المساعدات إلى قطاع غزة.
يعادل ذلك نحو 480 شاحنة من المساعدات جرى تسلمها إجمالاً من الرصيف، بناء على تقديرات برنامج الأغذية العالمي في وقت سابق من هذا العام للوزن الذي يمكن أن تحمله شاحنة.
وتقول الأمم المتحدة إن هناك حاجة إلى دخول نحو 500 شاحنة محمّلة بالمساعدات يومياً لتلبية احتياجات الفلسطينيين في القطاع.
وبعد أيام فقط من وصول أولى شحنات المساعدات من الرصيف في قطاع غزة، تزاحمت وتدافعت حشود على شاحنات واستولت على بعض ما تحمله.
وأدى قتل إسرائيل إلى سبعة من موظفي وورلد سنترال كيتشن في إبريل/نيسان، واستخدامها لمنطقة قريبة من الرصيف لتطلق منها مهمة إنقاذ رهائن في يونيو/حزيران إلى إضعاف ثقة منظمات الإغاثة بعمليات الرصيف، واعتمدت الولايات المتحدة على تلك المنظمات لتتسلم الإمدادات من الشاطئ وتوزعها على السكان.
واعترف مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأمريكية، بأن تسليم المساعدات «اتضح أنه ربما يكون أكثر صعوبة مما توقعه المنظمون».
وقال أحد المسؤولين السابقين، إن كوريلا أثار مسألة التوزيع باعتبارها مصدر قلق في وقت مبكر.
وذكر المسؤول السابق: «كان الجنرال كوريلا واضحاً جداً أيضاً بشأن ذلك: يمكنني القيام بدوري من هذا، ويمكنني القيام بالتوزيع إذا كلفت بذلك».
وأضاف: «لكن تم تحديد أن ذلك خارج نطاق المهمة بشكل واضح، ولذلك كنا نعتمد على هذه المنظمات الدولية».
وقال مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون لرويترز، إن الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة لم تكن قط متحمسة بشأن الرصيف.
وفي اجتماع مغلق للمسؤولين الأمريكيين ومنظمات الإغاثة بقبرص في شهر مارس/آذار، أعلنت سيجريد كاج منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة دعماً ضمنياً لمشروع الرصيف البحري الذي اقترحه بايدن.
لكن كاج شددت مراراً على أن الأمم المتحدة تفضّل إيصال المساعدات عبر «البر.. البر.. البر»، وفقاً لمصدرين مطلعين على المناقشات.
ورفضت الأمم المتحدة التعليق على مجريات ذلك الاجتماع، وأحالت الإجابة عن ذلك إلى مؤتمر صحفي، الاثنين، حيث قال متحدث باسم المنظمة إن الأمم المتحدة تقدر كل وسيلة تساعد على إيصال المساعدات إلى قطاع غزة منها الرصيف، لكن هناك حاجة إلى تعزيز الوصول عبر الطرق البرية.
وقلق منظمات الإغاثة الضمني في الخلفية كان هو أن بايدن، بسبب تعرضه لضغط من ديمقراطيين بسبب قتل إسرائيل لمدنيين في قطاع غزة، كان يدفع لحل من شأنه أن يكون في أفضل الأحوال حلاً مؤقتاً، وفي أسوأ الأحوال سيخفف الضغط عن حكومة نتنياهو من أجل فتح طرق برية إلى القطاع.
ووصف ديف هاردن المدير السابق لبعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مشروع الرصيف بأنه «مسرح إنساني».
وأضاف: «خفف هذا للأسف الضغط عن إتاحة عمل المعابر (البرية) بشكل أكثر فاعلية».