د. محمد الصياد *
هناك جانب فني (أيديولوجي إن شئتم) لاستمرار المأزق المالي للولايات المتحدة، الذي صار يطلق عليه الأمريكيون «دوامة الديون» (Debt spiral). فما زال هناك اقتصاديون أمريكيون مثل بول كروغمان، يجادلون بأن دولة مثل الولايات المتحدة، التي يمكنها فرض الضرائب والاقتراض والإنفاق بعملتها الخاصة، بوسعها أن تفعل ما تشاء اقتصادياً. ولا يمثل دينها الحكومي الذي وصل إلى 35 تريليون دولار، مشكلة بالنسبة لها، إلا في حال تسببت طباعة النقود في التضخم، الذي هو الآخر يمكن معالجته باستخدام السياسة المالية بدلاً من السياسة النقدية.
يقول بول كروجمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في مقال له في نيويورك تايمر يوم 6 يونيو 2024، بعنوان «لماذا يجب ألا تكون مهووساً بالدين الوطني»
(Why You Shouldn›t Obsess About the National Debt): «إن حكومة الولايات المتحدة قادرة على حل مشكلة الديون بسهولة من خلال إما زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق بنسبة 2.1% من الناتج المحلي الإجمالي». أي أن كروغمان المعادي لسياسة التقشف والداعي العنيد لسياسة التوسع الإنفاقي، تحول الآن إلى داعية لسياسة التقشف. تماماً كما يفعل صندوق النقد الدولي مع الدول النامية. لكن 2% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي التقديري لعام 2025 = 600 مليار دولار فقط. ومن هم الذين سيُلقى على عاتقهم عبء التخفيضات الإنفاقية؟ إنهم المتقاعدون، والمحاربون القدامى، وبقية الشرائح الضعيفة. أما رفع الضرائب فسيُلقى كالعادة على عاتق الطبقة الوسطى، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني المزيد من الضرائب، والمزيد من خفض الإنفاق، وبالتالي الدخول في حلقة مفرغة.
الحجة الفعلية (أو بالأحرى، الطريقة الاحتيالية التملصية من دفع الدين الأمريكي الحكومي) التي يسوقها بول كروجمان في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز، هي أنه يمكن لبلاده الاستمرار في طباعة المزيد من الأموال؛ بحيث يصبح مبلغ الـ35 تريليون دولار عديم القيمة، لذلك لا توجد مشكلة ديون على الإطلاق، بحسبه. لكن إذا أصبح الدولار «عديم القيمة»، فإن أسعار كل شيء، بما في ذلك الواردات، سترتفع بشكل كبير. ناهيك عن تهديد التضخم المفرط (Hyperinflation).
9 تريليون دولار، هو إجمالي قيمة الدين (السندات) الأمريكي الذي سيستحق خلال العام المقبل (2025). الحكومة الأمريكية لن تدفع بطبيعة الحال هذا المبلغ نقداً لحاملي السندات، وإنما ستقوم فقط بتجديد سنداتهم (إصدار سندات جديدة)، إنما بمعدل فائدة أعلى. ماذا يعني ذلك، هل هو الإفلاس المقنّع؟ وإلى متى سوف يستمر هذا المخطط العجيب في السياسة النقدية والمالية العالمية؟
لا يخدعنك الهدوء الحالي، فهو ملغوم. وسيتأكد هؤلاء من ذلك عندما تبدأ هواجس الشك والقلق تتسلل إلى نفوس المتداولين فيبدؤون بفهم التداعيات النفسية المحتملة والتحوط لها. فالمشترون المحتملون للديون الأمريكية لا يرون في الأفق نهاية لهذا الإدمان، وقد يبدؤون في أي لحظة بالنظر إلى الاستثمار في أدواتها المالية، باعتباره خطراً استثمارياً أكبر مما كان يُعتقد سابقاً. ولن يستطيع الكونغرس فعل أي شيء لإبطاء مفعول هذه التوجسات والنوازع؛ فتستمر مدفوعات العائد المطلوب على السندات (سعر الفائدة على الاقتراض) في الارتفاع، وكذلك كلف خدمة الدين، التي يتم التعامل معها عادة بمزيد من الديون. فالخوف هنا من يوم الحساب الذي قد يأتي مداهماً ومفاجئاً للجميع في نهاية المطاف.
أما الحل الواقعي والعملي، فلعله يكمن في ضرورة التوصل إلى إجماع وطني على إعادة بعث الروح الوطنية الأمريكية، والتسليم بخسارة المعركة الاقتصادية (في مجالات التنافس المختلفة: التصنيعية والتكنولوجية والتسويقية) لصالح الدول الصاعدة في آسيا، كمدخل أساسي لابد منه لعبور الأزمة، قبل الشروع في معالجتها، والتي يجب أن تشمل: وقف الهدر، وأوله ذلك الناتج عن تمويل الحروب الممتدة، والذي التهم 13.3% من الميزانية الفيدرالية لعام 2023، أو ما يعادل 3.5% من إجمالي الناتج المحلي (يمكن توفير الكثير من المال من خلال عدم تمويل الحروب في الخارج. بما له من تأثير لاحق في تحسين سمعة الأمريكيين في العالم، وانخفاض أعداد اللاجئين الفارين من مناطق الصراعات التي تسببت فيها واشنطن)؛ خفض الإنفاق الحكومي، ولأمريكا تجربة سابقة في عام 1974 في عهد نيكسون، حين سنت قانوناً يجعل الكونغرس رقيباً على الصرف من خلال الموازنة، وخفض الرواتب، وخفض الفوائد (لتحفيز الاقتصاد لزيادة الجباية الضريبية وترتيباً خفض الدين الوطني)، وتقليل ساعات العمل لتخفيض ميزانية النفقات التشغيلية المحسوبة على رأس المال العامل “Working capital” (رأس المال العامل، أو صافي رأس المال العامل = الفرق بين الأصول المتداولة “Current assets” والالتزامات المتداولة
“Current liabilities”. وهو مقياس لمدى تمتع الجهة بسيولة كافية ومدى عافيتها المالية على المدى القصير)؛ وقف استغلال عمل المهاجرين السريين الذي يفيدون شركات الأعمال على حساب مصلحة الاقتصاد، واستعادة مجد الابتكار والاختراعات، والتوغل عميقاً في الاقتصاد الجديد لاسيما الذكاء الاصطناعي، وعمل مزايدات على بيع براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية