لا تلخص مدينة القدس القضية الفلسطينية، لكنها ترمز إلى أكثر مواضعها حساسية وإلهاماً لمئات الملايين في أنحاء العالم.
بقوة رمزيتها أطلق على أحداث السابع من أكتوبر من العام الماضي، اسم عملية «طوفان الأقصى»، رغم أن وقائعها جرت في غلاف غزة على بعد عشرات الكيلومترات من المدينة المقدسة.
كما نسبت التضحيات في قطاع غزة، التي تفوق القدرة الإنسانية على التحمل، من حروب إبادة وتجويع منهجي إلى رمزية القدس ذاتها.
لا يمكن تفريغ الصراع الضاري على مستقبل القضية الفلسطينية من أبعاده الروحية، وقد أضفت الاقتحامات المتكررة بقيادة الوزير اليميني الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل ايتمار بن غفير للمسجد الأقصى، تساؤلات خطرة حول ما قد يحدث مستقبلاً، كأن يهدم بسيناريو أو آخر.
مصير المدينة المقدسة ليس شأناً يخص المسلمين وحدهم، بصورة رمزية فإن مصير المسجد الأقصى وكنيسة القيامة واحد.
في التفاتة رجل لديه حس استثنائي بالتاريخ أغلق البابا الراحل شنودا الثالث، ذات حوار بيننا منتصف تسعينات القرن الماضي جهاز التسجيل متسائلاً: «ماذا قد يحدث، وحاشا لله، إذا ما هدم المسجد الأقصى؟!».
انطوى سؤاله في وقته وحينه على خشية صريحة من مستوى الأداء الرسمي العربي في مواجهة التحديات والمخاطر، لعل الأمور الآن أسوأ.
«زيارة القدس الآن خيانة للمسيح».
كانت تلك عبارة قاطعة كلفته صراعات وصدامات تمكن بثقله الروحي من تجاوزها.
«القدس خط أحمر.. ومن يوافق على التفريط فيها ثمنه رصاصة».
كان ذلك من رأي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، كما أعرب عنه أثناء لقاء ضمه إلى مجموعة من رؤساء تحرير الصحف المصرية إثر مقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة في 30 سبتمبر/ أيلول من العام 2000.
كانت تلك العبارة بحذافيرها من مأثورات الزعيم الفلسطيني الراحل «ياسر عرفات».
في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي ردد فاروق قدومي، رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية العبارة نفسها بحمولاتها السياسية والإنسانية.
في أحد اللقاءات طرحت عليه سؤالاً يتعلق بمصير القدس واحتمالات التفريط فيها في أي مفاوضات لاحقة.. صنع بيده اليمنى شكل مسدس، ثم لوح بيده كأن رصاصة تنطلق، قائلاً: «هذا هو مصير من يفرط فيها حتى لو كان عرفات نفسه».
هو رجل عهد عنه الاتساق في المواقف والسياسات مهما كلفته من صدامات مع رفاقه، الذين شاركهم تأسيس حركة «فتح» كبرى المنظمات الفلسطينية.
عارض اتفاقية «أوسلو» وصوت ضدها في اللجنة التنفيذية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووقف دوماً مع حق المقاومة حتى رحيله الحزين قبل أيام في ذروة المواجهات على المصير الفلسطيني.
في الأيام الأخيرة شاعت على شبكة التواصل الاجتماعي أقوال متهافتة لناشط مجهول يتحدث باسم جماعة مجهولة تنسب نفسها إلى العلمانية يتحدث باستهتار بالغ عن القدس قائلاً: «إنها مدينة عادية كأي مدينة أخرى، لا شأن لنا بها ولا بقضيتها».
بتوقيته فإنه يدخل في الصراع على مستقبل القدس كتلخيص للقضية الفلسطينية كلها.
وبمنطقه فإنه هدية مجانية تسلم بشرعية الاحتلال وتهويد القدس بالكامل وطرد الفلسطينيين منها والقبول بهدم المسجد الأقصى.
قد يقال: إن صاحبه مجهول وتأثيره منعدم، لكن الكلام يدخل في سياق الصراع المحتدم على المعاني الكبرى والرموز النافذة.
بصورة أو أخرى فهو امتداد لدعوات أخرى حاولت نزع القداسة عن المسجد الأقصى بالتشكيك في موضعه بالمدينة المقدسة وفي رواية «المعراج» نفسها.
بما هو سياسي فإن التشكيك يستدعي بالضرورة نفي أي أحقية عربية في القدس، وينفي عن فكرة المقاومة جدارتها ومشروعيتها.
إنه الصراع على الرموز والمعاني الكبرى.
الاستهداف نفسه يتمدد جوهرياً إلى ما هو سياسي مباشر بتعمد النيل من ثلاث شخصيات تاريخية على سبيل الحصر، صلاح الدين الأيوبي، برمزيته في تحرير القدس، وأحمد عرابي بدوره في تحدي المشروع الاستعماري بقوة السلاح، وجمال عبد الناصر بمشروعه التحرري الوطني والعروبي.
هناك فارق بين النقد المشروع والاستهداف بالتشويه.
الأول مشروع تماماً.. والثاني جريمة تاريخية متكاملة.
إذا لم يكن لمصر وعالمها العربي شأن بقضية القدس فإنها تخسر كل شيء، أدوارها في عالمها العربي واحترامها لنفسها.
بما لديه من مستندات وخرائط، حذر شيخ الأقصى رائد صلاح، مبكراً من حجم الأخطار التي تحيق بالمسجد المبارك وتهدد بانهيار مفاجئ في بنيانه جراء حفريات اقتربت من عمقه تحت المنطقة المسماة الكأس بين المسجد وقبة الصخرة.
كان من رأي الأستاذ محمد حسنين هيكل، رداً على رسالة من الشيخ رائد صلاح: «إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلماً خالداً بالنسبة لنا جميعاً، فهو الحسنيان معاً، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ».
«القضية تتعدى أي شخص وأي مؤتمرات صحفية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التي لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسي شعبي واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم، قبل غيرهم وفي مقدمة الصفوف، عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».
كانت تلك رؤية في معنى أن تكون مقدسياً، غير أنها لا تلغي بالوقت نفسه مسؤولية الآخرين في الدعم والإسناد.
https://tinyurl.com/4w3dnxfk