د. علي محمد فخرو
في اعتقادي أن المنطلق لبناء ثقافتنا العربية الذاتية المستقلة والقادرة على التفاعل المتوازن التضامني مع ثقافات الآخرين يبدأ من معرفة، وتجديد إن لزم، الأسس الفكرية والقيمية والسلوكية التي انطلقت منها ثقافتنا التراثية من أجل الحكم، إيجاباً أو سلباً، على فكر قيم وسلوكيات العصر الذي نعيشه اليوم بكل مشاهده وتجلياته.
هنا سنضطر لانتقاء بعض مما فصّله المرحوم المفكر عبدالله عبدالدائم في كتابه «في سبيل ثقافة عربية ذاتية»، نعتقد أنه مفصلي ويمثل مداخل فكرية وقيمية كبرى، حتى ولو لم تتحقق في الواقع المعيش عبر الكثير من فترات تاريخنا.
لنأخذ موضوع الفردانية، فتراثنا الثقافي يعطي أهمية قصوى للمسؤولية الفردية. فالفرد يأمر نفسه ومن حوله بالمعروف وينهى نفسه وغيره عن ممارسة المنكر.
وتلك المسؤولية تقررها الأخلاق قبل أن تكون ملزمة بالقانون، ودافعها هو السموّ الداخلي واحترام الذات وليس المنافع الشخصية الأنانية، والإنسان يظل شاعراً بوطأة الذنب والقلق النفسي حتى ولو برّأه القضاء أو غضَ المجتمع النظر.
ولعل إصرار القرآن الكريم على ربط صحة الإيمان ومتانته بالعمل الصالح هو من أجل تأكيد أن فكر الفرد وأقواله لا قيمة لهما إلا إذا أصبحا فعلاً في الواقع.
المسؤولية الفردية القيمية التي بينّا، لا تتحقق أخلاقيتها ولا سموّ مروءتها إلا ضمن تعايش اجتماعي تضامني مشترك، يسهم فيه الفرد ويسهم في حمل أعبائه بألف صورة وصورة.
وهذا أيضاً يتناقض كلياً مع منطلقات وسلوكيات النيولبرالية التي يعيشها العالم حالياً، والتي تنادي باختفاء دولة الرعاية الاجتماعية، وبعدم مسؤولية الفرد تجاه أية جماعة بما فيها العائلة والحزب والنقابة والطائفة والمؤسسات الإنسانية في أشكالها الكثيرة.
ولا يحتاج الإنسان إلى التذكير بما وصلت إليه المجتمعات العولمية من غياب للتراحم والتعاطف، لحساب إرواء كل أنواع الميول الفردية باستهلاك نهم مجنون، ليعيش الإنسان في عزلة اجتماعية ونفسية مأسوية، قد تقود إلى الجنون أو الانتحار، وفي كثير من الأحيان إلى الانزواء عن تفاعلات المجتمع الذي يعيش فيه.
وإنه لمنطقي أن يقود كل ذلك إلى ظواهر ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، وفي تضاؤل حجم الطبقة الوسطى وفاعليتها وفي جنون تنافس الدول التجاري المجنون المباعد لعلاقات البشر.
ولما كان هناك هوس بالنسبة للحرية الفردية ومناداة بإعطاء الفرد حريته الكاملة دون أية ضوابط أو أي اعتبار لحرية الآخرين وأنظمة المجتمعات، تتبين الأهمية القصوى للموازنة المعقولة في تراثنا الفكري بين حرية الفرد وحقوقه من جانب وحرية المجتمعات، وحقوق الشعوب من جانب آخر، خاصة وأن هذه الحقوق مرتبطة بشكل مباشر بالقيم الإنسانية.
لقد نادى تراثنا العربي بقوة لأهمية تحرير الإنسان من أي استغلال، خصوصاً الاقتصادي، وشدّد كثيراً على حرية الإنسان الشخصية في الوقت نفسه: حرية الإيمان والتفكير والتعبير، وجعل الاعتداء على فرد مساوياً للاعتداء على كل البشر.
ولخّص قيم الحرية تلك قول شهير لعمر بن الخطاب: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، كما ثبّت وأضاء روحها الآية الكريمة «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ»، وآية «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».
إنها الديموقراطية السلمية الضميرية بكل تجلياتها، دون أن تديرها الدولة العميقة أو يهيمن عليها أصحاب المصالح من وراء ستار.
وتكتمل صورة ذلك المشهد التحرري الديموقراطي في قيمة الشورى، وبالرغم من كل المشاحنات حول معاني ومحدّدات مبدأ الشورى، إلا أنه يظل قيمة مفصلية في جعل شؤون الشعوب والمجتمعات، راجعة في العمق والروح والرمز إلى إرادة ومصالح الشعوب والمجتمعات.
وتتجلّى روعة تلك القيمة عندما تجعل الشورى مبدأ لا في أمور السياسة والحكم فقط، وإنما في كل مؤسسات المجتمع بالتوجيه الشهير «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ».
وتصل تلك المنطلقات القيمية في التراث العربي الإسلامي إلى تألقها وروعتها في قيمة القسط والميزان، أي العدالة، وهو موضوع بالغ الأهمية.
هذا إذا علمنا بأن روح الرسالة الإسلامية التي حملها العرب كانت تتعلق بالأهمية القصوى لممارسة القسط والميزان والعدل، والابتعاد الضميري والأخلاقي والسلوكي والحقوقي عن كل أنواع الظلم.
كل القيم التي ذكرنا سابقاً لا تنسجم ولا تتعايش مع الظلم، الذي يبطلها أو يشوهها.
إن حساسية تراثنا الفكري والقيمي والديني تجاه موضوع العدالة والمساواة ونقيضهما الظلم، سنعود إليه المرة تلو المرة، عندما نصل إلى المشروع النهضوي العربي ومفصليته المستقبلية.