يحيى زكي
تدفعنا أعمال المفكر والروائي أمين معلوف إلى التفكير في موضوع الهوية، فكل كتبه بداية من «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، وحتى «إخوتنا الغرباء»، مروراً ب «سمرقند» و«موانئ الشرق» تناقش الهوية في مفاصلها المختلفة: ثقافية واجتماعية وتاريخية، وهو ما يظهر بوضوح في كتبه الأخرى، خاصة «هويات قاتلة».
تثير تلك الأعمال أسئلة تتعلق بتاريخ التعايش بين مختلف الأقليات، والفترات التي شهدت تسامحاً أو تصادماً بينها، والأمكنة التي عرفت هويات منفتحة على بعضها بعضاً، ما نتج عنه امتزاج بين مكونات دينية وعرقية مختلفة.
تفرض أعمال معلوف عدة أسئلة، يأتي على رأسها ما يخص طبيعة عمله نفسه، وفي هذا الإطار للمتابع أن يسأل: ما هو الإسهام الذي بإمكان الثقافة بصفة عامة والأدب على وجه الخصوص تقديمه في ما يتعلق بموضوع التعايش؟، وهل يمكن أن تؤثر الثقافة في التسامح والتحاور بين البشر؟، وهل كانت الثقافة يوماً عامل تفريق بين مختلف الهويات؟، أم أن لتلك الصراعات خلفيات سياسية واقتصادية واجتماعية؟.
هذا فضلاً عن أسئلة أخرى، من قبيل: متى تكون الهوية مرحبة بالآخر، ومتى تكون منغلقة؟، متى لا يدرك مجموعة من البشر ذواتهم كأقلية في مجتمع ما، ومتى يستطيعون الاندماج فيه والإضافة إليه؟، ومتى يعيشون منعزلين في «غيتو» مغلق؟، وهل مسألة التفاعل بين البشر تعود إلى ما يحملونه من أفكار ومعتقدات ورؤى أم أن الاقتصاد هو الفيصل في ذلك الموضوع، حيث تستطيع التجارة بما لها من قوة وتأثير الربط بين هويات متعددة أشبه ب«الموازييك»، حدث هذا في فترات تاريخية عدة، كان أكثرها في الحضارة العربية الإسلامية.
الباحث التاريخي في مسألة الهويات بإمكانه أن يتحدث مطمئناً بالشواهد والأدلة عن هويات متعايشة في المشرق العربي الإسلامي، صحيح أن تاريخ هذه الهويات شهد صراعات وصدامات، لكنه لم يعرف يوماً الإلغاء والإقصاء وضرورة إزاحة الآخر من الوجود.
وبرغم أن الراهن ليس في صالح المنطقة الآن ويميل إلى الغرب، إلا أن التاريخ يقول العكس تماماً، بل إن بحثاً موضوعياً ثقافياً وتاريخياً يبحث في الجذور يؤدي إلى نتائج تقول إن الإضافة الحضارية الأساسية للشرق تتمثل في قبول الآخر، بدأ ذلك من فكرة الموالاة القبلية في فترة ما قبل الإسلام، ثم قبول القرآن نفسه للآخرين كأهل كتاب، يمكن التعايش معهم والحياة بينهم.
وهناك أيضاً غياب فكرة الغريب عن الثقافة العربية، فهذا الغريب قد يكون عابر سبيل، وقد يكون ضيفاً وربما تتطور العلاقة معه للدخول في حمى القبيلة، بعكس فكرة الغريب في الثقافة الأوروبية تماماً، فهو إنسان يبعث على الخوف ويختلف عنا تماماً والعلاقة معه إقصائية، وهناك الكثير من الأعمال الفلسفية والأدبية التي تناولت الغريب من زوايا عدة، بما يؤكد أنه كان ولا يزال يمثل هاجساً بالنسبة للعقلية الغربية.
الهوية موضوع ثري، تتقاطع فيه العديد من الحقول ويحتاج إلى المزيد من الحفر حتى نضع أيدينا بدقة على الأسباب الحقيقية التي تجعل البشر لا يتقبلون الآخر في عالم لا يحتمل المزيد من الصراعات.