أحمد مصطفى
في رصد سريع للوعود الانتخابية التي تطرحها حملات مرشحي الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة الأمريكية لانتخابات الرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل (الجمهوري والديمقراطي)، يخلص المرء بسهولة إلى نتيجة تعزز ظاهرة واضحة منذ فترة، وهي إعادة تدوير الحلول لقضايا تتطور أسرع وأكثر تعقيداً من تطور مؤسسة الحكم في أكبر دولة عظمى.
لا تقتصر الظاهرة على الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، وإنما أضحت سمة عامة في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة في أوروبا وغيرها من الدول الرأسمالية الراسخة في العالم، صحيح أنه منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي، وبعد نهاية الحرب الباردة، تركزت توجهات الأحزاب السياسية الكبرى في الغرب ضمن نطاق «الوسط»؛ بحيث كادت تختفي أي فروق بين يمين ويسار ومحافظين وليبراليين.. إلخ، لكن بغض النظر عن ذلك، ورغم أنه أدى إلى بروز تيارات هامشية خارج سياق النظم السياسية التقليدية، إلا أنه دائماً ما كان يعوّل على أن «مؤسسات» السلطة تحافظ على النظام مهما كانت نتائج الانتخابات وضعف الأحزاب.
لعل بعضهم ما زال يردد أن «أمريكا بلد مؤسسات»، وكذلك كان الحال في أوروبا وغيرها، أي أن هناك الجهاز الإداري للدولة (البيروقراطية) ومراكز البحث والتفكير وتكوينات القوى المؤثرة من رجال أعمال ونخبة ضيقة تبقي الأوضاع «تحت السيطرة».
وحاجج كثيرون ممن يرون دور المؤسسة أهم من دور أي حكومة منتخبة، وتتغير كل بضع سنوات، بأن القادة في الديمقراطيات الراسخة «لا يتصرّفون على هواهم»، أو أن شخصياتهم لا تصبغ التوجه العام للحكم لأن من يدير الأمور في النهاية هي «المؤسسة».
ليس هناك تعريف محدد لتلك «المؤسسة»، ولا يمكن تحديدها بشكل عملي دقيق، وبالتالي يصعب محاسبتها أو تقييم عملها بالشكل الذي ينطبق على السياسيين المنتخبين، ففي النهاية تلقى باللائمة في أي فشل أو تدهور على من هم في صدر الصورة، لكن الواقع أن كل مكونات المؤسسة في تدهور منذ فترة، ويبدو ذلك واضحاً من عدة مظاهر تتجاوز أخطاء السياسة التي تزخر بها التعليقات الإعلامية والانتقادات في التحليلات وغيرها.
وبعيداً عن العطل البيروقراطي، الذي قد يحدث كل فترة ثم تجدد البيروقراطية نفسها، هناك خلل مهم في دوائر المؤسسة الأخرى. لنأخذ على سبيل المثال ما تسمى «أدوات مساندة صانع القرار»، أي مراكز البحوث والاستشارات وشركات تحليل البيانات والمعلومات التي تشكل سنداً مهماً لابتكار وتنفيذ السياسات، ليس فقط في أمور السياسة والحكم، بل أيضاً في مجالات المال والأعمال وغيرها من جوانب النشاط الإنساني في زمننا المعقد هذا.
هناك فقر شديد في ذلك الجانب من المؤسسة؛ إذ لا ترى أي ابتكار في أي مجال من تخطيط وسياسات وأفكار تهدي إلى حلول لمشكلات تتراكم وتتفاقم.
من الأمثلة القريبة، العقل المدبر لحزب المحافظين في بريطانيا الذي خسر الانتخابات الشهر الماضي. تلك هي ما تسمى «مجموعة الأبحاث الأوروبية» التي يقودها جاكوب ريس-موج، هذه المجموعة هي التي كانت وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، باعتباره السبيل للتقدم والازدهار والقفز على كل مشاكل البلاد التي أدت إلى تدهور أوضاعها وجعلها في ذيل دول مجموعة السبع ومجموعة العشرين وكل منتديات الدول المتقدمة.
ولننظر ماذا حدث: كل دعاية التصويت لـ«البريكست» قبل ثماني سنوات، كانت مبنية على أكاذيب وتلفيقات بطريقة مواقع التواصل، لا فكر ولا إبداع حقيقي فيها، أربع حكومات مختلفة في خمس سنوات من تيريزا ماي، إلى ريشي سوناك، مروراً ببوريس جونسون، وليز تراس. وكلها فشل وتجاوز للقانون ونخر في بنية النظام دون أن نشعر بأي أثر لما تسمى «المؤسسة» للحفاظ على ما تبقى من نظام.
حتى الاختيار الحالي للمؤسسة، المتمثل في زعيم حزب العمال كيير ستارمر، ليس إلا عداء للمحافظين، كما يظهر تاريخه منذ ظهوره السياسي، بالضبط كما يفعل ترامب وهاريس الآن في أمريكا بأن تجد أحدهم يطرح وعداً انتخابياً، فيعيد الآخر صياغته ويطرح شبيهاً له، والحديث هنا عن قضايا الشأن المحلي والسياسات الداخلية، والحال نفسه تجده في ألمانيا وفرنسا وغيرها.
أما في ما يخص السياسة الخارجية مثلاً، والتي قد يهمنا في الشرق الأوسط محاولة معرفة ما وراءها، فهنا يبدو فقر المؤسسة أشد وضوحاً، فحتى زمن قريب كانت القوة العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية، تستمد كثيراً من معرفة الأوروبيين بمنطقتنا وخبرتهم في التعامل مع شؤونها، ثم تراجع ذلك لصالح الاعتماد أكثر وشبه الحصري على ما تمد إسرائيل به واشنطن، حتى إن مراكز دعم اتخاذ القرار أصبحت في حالة كسل رهيب طالما هناك من يقوم بمهمتها.
أدى ذلك ليس فقط إلى فقر المؤسسة في كل نواحي الحكم؛ من قضايا داخلية وسياسة خارجية، ولكن إلى شبه انفراط عقدٍ لما كان كثيرون يرون أنه مستوى حماية قوي للنظام في الدول الغربية المتقدمة. وقد بدا ذلك يظهر جلياً في فشل السياسات داخلياً وخارجياً ولجوء بعض قوى المجتمع القادرة إلى «أخذ الأمور بيدها».
لذا لن يكون غريباً أن يؤدي فقر المؤسسة إلى ضعف عام شديد ينتهي بظهور ميليشيات وجماعات مارقة في تلك المجتمعات، ليس فقط من اليمين المتطرف واليسار الفوضوي، بل حتى بعيداً عن كل مكونات السياسة.