مارلين سلوم
من تعثر وشقّ عليه الوصول إلى تحقيق حلمه خلال مسيرته الحياتية، لن يتوانى عن البحث عن أي عمل يعرف جيداً أنه سيثير الجدل وسيستفز شعوباً وسيحرض الناس على مشاهدة الفيلم من باب الفضول وحب المعرفة، ولن يتوانى عن كسب ودّ لجنة جوائز الأوسكار بتحقيق أحد شروطها للموافقة على قبول الأفلام، وهو تقديم حالة اجتماعية تحت مسمى «الإنسانية»، تشوّه مجتمعاً أو على الأقل تظهر أسوأ جانب فيه وتجعل من أي حالة استثنائية سمة عامة يشعر العالم وكأنها الصورة الحقيقية لتلك الدولة ولذلك الشعب؛ لذلك ليس مستغرباً أن يلجأ الكاتب الهندي بليسي إلى قصة «حياة الماعز» ليقدمها كأول فيلم من إخراجه ومن إنتاجه وليعزف فيه على وتر الإنسانية لأهداف غير إنسانية، ورحبت «نتفليكس» أن تتبنى العمل وتقدمه للجمهور كأنه «تحفة فنية»، ومن يشاهده بموضوعية يدرك أن الهدف من الفيلم ليست الحالة الإنسانية، بل أغراض أخرى.
ما هو معلوم للجميع أن «حياة الماعز» أصدرها الكاتب الهندي المالايالامي بنيامين عام 2008 في كتاب لاقى رواجاً، عن قصة عامل هندي اسمه نجيب، يأتي إلى المملكة العربية السعودية بحثاً عن عمل من أجل تحسين أحواله الاجتماعية، تاركاً خلفه زوجته وأمه، لكنه يصادف كفيلاً يعامله بلا رحمة فيعيش في جحيم إلى أن يتمكن من الهروب فيجد من يساعده ويرأف لأحواله قبل أن يتم ترحيله إلى بلده، في القصة الرئيسية يقتل نجيب كفيله، ويجد من أهل السعودية كل الدعم والرأفة فيدفعون عنه الفدية لينقذوه من المحاكمة وليتمكن من العودة إلى أهله وزوجته بسلام.. لكن يبدو أن بليسي الرجل الستيني عمل طوال حياته مساعد مخرج وكاتباً سينمائياً، وجد في تحريف قصة نجيب في «حياة الماعز» باباً يمنحه فرصة الإخراج لأول مرة والوصول إلى شاشة «نتفليكس» ليراه الملايين حول العالم، وفرصة أكبر كونه بلا شك سيستفز الشعوب العربية وليس الشعب السعودي فقط، وفرصة ذهبية لتلبية رغبات «الأوسكار» بتقديم فيلم «يعري» جانباً سوداوياً في أي مجتمع «غير أمريكي طبعاً».
الخطوط العامة
بليسي أخذ الخطوط العامة من قصة بنيامين وجعل من نجيب وغيره من العمالة الهندية الآتية إلى المملكة العربية السعودية، ضحايا عنف يعيشون في قهر ويلقون معاملة غير آدمية، مثلهم مثل الماعز والجمال، خصوصاً أولئك الذين يتم نفيهم للعمل كرعاة للأغنام في قلب الصحراء الشاسعة.. إذا أردنا أن نتحدث من الناحية الفنية، وقع بليسي في خطأ واضح يكتشفه المشاهد منذ البداية، حيث لم يقدم أي شخصية سعودية أو عربية باعتبارها جيدة، كما لم يقدم أي نموذج للقادمين من بلاده الهند ويعملون في المملكة بظروف وشروط جيدة ومنهم من عاد إلى بلده وقد جمع الأموال وأنشأ مشروع أو مشروعات له ولأسرته، وهناك من أهل بلده من يستثمر في دول الخليج في مجالات مختلفة، فمنهم من أنشأ المستشفيات ومنهم من يمتلك مدارس ومنهم أصحاب المحال والعلامات التجارية ومنهم من يرفض العودة لبلاده متخذاً من السعودية ودول الخليج وطناً ومستقراً مدى الحياة.. كل تلك النماذج لم نلمح أياً منها في الفيلم ولم يأت على ذكرها ولو من بعيد كي يقول مثلاً إن العامل الهندي عليه توخي الحذر قبل مجيئه إلى بلد لا يفهم ولا يتكلم لغته، عليه أن يحفظ اسم الكفيل الذي سيعمل لديه وما هي مهنته ويحمل معه رقم هاتفه ليتصل به فور وصوله.
تفاصيل الفيلم
من هنا، وقبل الخوض في تفاصيل الفيلم الكثيرة، نتأكد أن غرض صناع الفيلم ليس بريئاً كما ادّعى المخرج في بيانه التوضيحي رداً على موجة الغضب التي واجهه بها غالبية الجمهور العربي، حيث أكد أنه أراد لفت الأنظار إلى ما قد يتعرض له العمال، وأنه أظهر نماذج إيجابية في الفيلم وتحديداً الرجل السعودي الذي توقف بسيارته الرولز رويس الفارهة لينقذ نجيب الهارب من كفيله لأيام طويلة في الصحراء.. طبعاً لن نعود كثيراً إلى الوراء لنسرد تفاصيل القصة لأنها معروفة، حيث يصل عاملان من الهند إلى المطار في السعودية بهدف العمل في إحدى الشركات وقد سبق أن تواصلا مع الكفيل من الهند وأرسلا أوراقهما له، لا يعرفان كيفية التصرف، فيأخذهما رجل سعودي (الفنان العماني طالب محمد) مدعياً أنه الكفيل ويضعهما في الصحراء ليعملا في رعي الأغنام، يعيشان حياة عبودية ويلقيان من التعذيب ما لا يمكن أن يطيقه بشر، نجيب هو بطل القصة (بريثفيراج سوكوماران)، وصديقه حكيم (كي آر جوكول) يفكران مراراً بالهرب ولا تنجح مساعيهما خصوصاً أنهما في الصحراء ولا يعرفان طريقاً للخروج منها. يعيش نفس ظروفهما عامل جاء من إفريقيا اسمه ابراهيم قادري (جيمي جان-لويس)، يتفق الثلاثة على الهروب ليلة انشغال الكفيل بزواج ابنته، فيذهبون في رحلة معاناة طويلة تنتهي بوفاة حكيم واختفاء ابراهيم ونجاة نجيب بوصوله إلى الطريق حيث تمر شاحنات يرفض سائقوها مساعدته، إلى أن يأتي ثري سعودي (الفنان الأردني عاكف نجم) ليحمله معه في سيارته الرولز رويس إلى وسط شارع مكتظ بالناس فيتركه هناك ويمشي، الكل يخاف من شكل نجيب الملتحي والمتسخ إلى أن يسقط أرضاً ثم نراه في أحد المراكز، يبدو أنه تجمع لعمال هنود، يساعدونه ويطببونه ويتصلون بأسرته في الهند ليكتشف أن زوجته أنجبت له ابناً اسمه نبيل، ثم يتم تسليمه للشرطة ويسجن لثلاثة أشهر قبل أن يتم ترحيله إلى بلده.
لو أراد بليسي التمييز بين النموذج السيئ والنمــاذج الجيدة، لقدّم الحقيقة وفق طبيعة أهل البلد، فمن غير الطبيعي أن يتــوقف رجــل بهذا الثراء لرجل محتاج للمساعدة وينقله ليتركه وحيداً تــائهاً وسط شارع حيوي، بل ما يتم في الواقع هو أن يحمله إلى المستشفى نظراً لحالته الصحية السيئة أو إلى أقرب مركز شرطة أو على أبعد تقدير يأخذه إلى الجامع الذي رأيناه على بعد خطوات من المكان الذي أنزله فيه، ولا يــتركه دون مساعدة مـــادية وإنـــسانية ودون تأمــين لقمة عيش يأكلها! فما قام به هذا الرجل غير منطقي، ربع عمل إنساني ويكمل طريقه؟! نعم هناك من يتعامل مع العمــالة بنظرة دونية وهي أمر موجود في كثير من الدول، وليــس محصوراً بشعب ودولة، وهــناك من يتعامل بعنــصرية مع العمالة الأجنبــية، ونراهــا في الغــرب كثيراً، وهناك أخطاء ترتكب بسبب نظام الكفالة، لكـن ما شاهدناه في الفيلم لا يصدقه عقل ولا يقبله منطق، لأنه يخلو من أي توازن ومصداقية، كما أن تركيز المخرج على رحلة الهروب في الصحراء نصف ساعة كاملة، أطالت مدة الفيلم فأصابنا الملل، ويبدو جلياً أن هدفه استعطاف الجمهور وإثارة غضبه في آن، بينما فنياً تجد الكثير من الأخطاء في هذه الرحلة، منها مثلاً، كيف يصر نجيب على حمل صديقه حكيم المتوفّى بينما يشده إبراهيم لينقذه من عاصفة رملية آتية بجنون، نجيب المتعثر والمتألم بسبب إصــابة قـــدميه مـــن حر رمال الصحراء يريـد العـودة لحمل ميت وهو لا يقوى على التقــدم خطوتين؟ نفــهم أن يناجيه ويحزن لا أن يعاند ويقــف مكانه! ثــم إبراهيم الوحيد الذي يبــدو قــوياً ومتــماسكاً طــوال الوقــت رغم أنه عانى نفــس ظــروف القــهر التي عاشــها نجيب وحكــيم، هو أعلم بأمور الصحراء لكن هل كونه إفريقــياً يجعل منه إنساناً لا تقهره الصحراء طوال هذه الأيام، ومعاناته من العطش والتعب لا تذكر أمام معاناة الهنديين؟
هدف المخرج
كيف لم يجد نجيب من ينقذه في الشارع بعد ترك الثري السعودي له سوى مجموعة من الهنود؟ لماذا كل الكفلاء الذين رأيناهم في الجزء الأخير من الفيلم بلا رحمة، والشرطة أيضاً بلا رحمة؟ قد يكون هدف المخرج بليسي التصوير في صحراء الجزائر وفي الأردن بجانب المشاهد القليلة الخاصة بالبطل وحياته في بلده الهند، لجعل القصة واقعية ويصدقها الجمهور، لكننا في زمن نعرف جيداً كيف نميز الغثّ من السمين، والجمهور يعرف كيف يقيم العمل الفني الجيد ويفنّد تفاصيل القصص، ولا أحد ينكر أن التصوير كان جيداً في الفيلم، وأن الماكياج لعب دوراً مهماً وهو يستحق جائزة، وأداء الأبطال الثلاثة الرئيسيين جيد أيضاً، لكن العمل لا يرتقي إلى المستوى الذي يحاولون خداعنا فيه بأنه عالمي.