د. يوسف مكي
يستعير هذا الحديث بعضاً من عنوانه من دراسة كتبها الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري، وحملت عنوان «الثقافة العربية اليوم ومسألة الاستقلال الثقافي».
وقد جاءت هذه الدراسة ضمن مجموعة من دراسات أخرى، كتبها باحثون ومفكرون ومؤرخون عرب، وصدرت في كتاب نشره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، عام 1994، تحت عنوان «وحدة الثقافة العربية وصمودها بوجه التحديات».
ورغم مرور ثلاثين عاماً على صدور هذا الكتاب، سالت خلالها مياه كثيرة، وتغيرت خارطة العالم، على المستوى السياسي، إلى حد كبير، حيث صدر الكتاب أثناء تفرد الولايات المتحدة بالسياسة الدولية، انقسم فيها العالم إلى محورين، محور خير يمثله المنتصرون ومحور شر، إلا أن الأسئلة التي تناولتها البحوث لا تزال حيوية ومهمة.
جاءت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، حين أقدم شباب جلهم من العرب، على اختطاف طائرتين، في عملية متناسقة ضربت مبنى التجارة الدولي في نيويورك، رمز القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، ومنذ ذلك الحين تعززت محاولات الفصل بين الثقافات من خلال الحرب على أفغانستان واحتلال العراق لاحقاً، بتهمة امتلاكه أسلحة دمار شامل، رغم أن الحكم في العراق لم يكن له أي دور في أحداث سبتمبر، ولم تشكل أسلحته أي تهديد للأمن الأمريكي.
والغريب هو تبرير وزير الدفاع الأمريكي حينها دونالد رامسفيلد، أسباب اختيار تدمير العراق، بعد أن كان الهدف المعلن هو أفغانستان، بأن الأخيرة لا تملك ما يغري لضربها، وأن قادة «القاعدة» قد هربوا من العاصمة كابول إلى تورابورا، فاحتلال العراق، بعمقه الحضاري وتاريخه العريق، وثرواته الهائلة، واحتياطه النفطي الكبير، يضيف قوة هائلة إلى الولايات المتحدة... وهكذا كان.
ما علاقة هذه المقدمة بحديثنا عن الثقافة القومية ومسألة الاستقلال، وكتاب وحدة الثقافة العربية وصمودها بوجه التحديات. واقع الحال يقول إن احتلال العراق تزامن مع طرح شعارات كبيرة أخرى، مثل نهاية التاريخ، والفوضى الخلاقة، ونهاية الدول، وعدم الحاجة إلى وجود قانون ناظم للعلاقات الدولية، ومسائل أخرى.
معظم تلك الشعارات خرجت من فرن واحد، ولعب في الترويج لها مسؤولون أمريكيون، مثل كونداليزا رايس، ودونالد رامسفيلد وكولن باول، واستخدم في التنظير لها كتّاب مثل فوكوياما، وريتشارد بيرل، وتروتسكيون وآخرين،. لكن تلك التنظيرات لم تصمد كثيراً، وحقبة الأحادية القطبية، لم تعمر أكثر من عقد من الزمن، وجاء التحدي الأول لها من حليف لأمريكا وعضو في حلف الناتو، هي فرنسا التي رفضت التصويت في مجلس الأمن على احتلال العراق، وقد اضطرت الإدارة الأمريكية، أمام التصلب الفرنسي إلى غزو العراق دون استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي.
الموقف الفرنسي كان الدليل الأكبر على تأثير الفوارق الثقافية في صناعة القرار السياسي، رغم كون فرنسا حليفة لأمريكا في مجالات السياسة والاقتصاد، وعضواً مشتركاً معها في حلف الناتو. والدليل الآخر أن حلم أمريكا في استقبال العراقيين دباباتهم بالورود والرياحين ذهب أدراج الرياح، فقد بدأت مقاومة العراقيين لغزوهم، مباشرة منذ اليوم الثاني للاحتلال، وكما رفض العراقيون الغزو، رفضوا أيضاً تبعاته وعلى رأسها تقسيم العراق إلى محاصصات، على أساس القسمة بين الطوائف والإثنيات.
افتراضياً، يتساءل الجابري، كيف يجوز الحديث عن الاستقلال الثقافي، بالنسبة إلى ثقافة حية، متطورة ومتجددة، ما لم تكن قادرة على مواكبة التقدم في مختلف مجالات المعرفة، إلا إذا دخلت في علاقة تواصل وأخذ وعطاء مع الثقافات الأخرى، ومثل هذه العلاقة قد تحد من استقلالها، خصوصاً عندما تكون وسائل الاتصال الثقافي كثيرة ومتطورة، كما هو الحال الآن في عصرنا.
وهنا للأسف تحضر نظرية عالم الاجتماع الفرنسي، أميل دورخايم، الذي قسم شعوب العالم إلى صنفين، الأول ديناميكي، وعلماني وصناعي ومدني وتجريبي وتعاقدي، والثاني ساكن وخرافي وزراعي وريفي وقدري.
وقد احتكر الغرب، من وجهة نظر دورخايم جميع الصفات الإيجابية، وترك نقيضها لشعوب العالم الثالث، الذي يضعنا التصنيف في القلب منه.
لحسن الحظ، فإن التطورات العلمية التي حدثت على مستوى العالم، في العقود الأخيرة، نسفت النظرة الرواقية من قبل الغرب، تجاه شعوب العالم الثالث، فاقتحام الصين الأسواق العالمية بشكل قل وجود نظير له في التاريخ الإنساني، نسف بشكل حاسم نظرية المركزية الأوروبية العنصرية، وتفوق العقل الغربي.
وجاءت العودة السريعة للدب القطبي الروسي، بقيادة القيصر الجديد فلاديمير بوتين، لتلجم نظرية التفوق العسكري الأمريكي، ولتسجل لروسيا تفوقاً عسكرياً على أمريكا في كثير من المجالات، لعل أهمها الصواريخ فرط الصوتية، كما جاء النبوغ الروسي في صناعة المسيرات بالأسعار الزهيدة، وعدم احتكار ملكيتها، ليضيف بعداً آخر في السياسة الدولية.
ثقافتنا القومية، مع حرصها على مسألة حماية الاستقلال، مدعوة للدخول بالاختراق والتفاعل والاستجابة في الزمن الكوني الذي نحياه، دون خوف أو وجل، وأن ترفض دعاوى الخصوصية، التي استخدمت فيما مضى كرباجاً يحول دون انفتاحنا على الثقافات الأخرى.
وفي هذا السياق، يقتضي التسليم بدور الثقافات الإنسانية الرحبة، على مستوى العالم، دون أن نكون ضحايا لهيمنة الثقافة التي تعمل ليل نهار، على أن يكون استلاب حريتنا وحقوقنا أمراً مستداماً. إن من شأن تفاعلنا مع التاريخ والثقافات الأخرى أن يضيف عناصر أخرى إلى قوتنا، وذلك ما يجعلنا نسير على السكة الصحيحة المتجهة إلى الأمام.