حدود الحرب وعوامل التغيير

00:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
أحمد مصطفى

حسب ما يخبرنا التاريخ ليست هناك حرب تستمر إلى الأبد، فالحرب في النهاية لها هدف سواء تحقق أو فشل، تنتهي بشكل ما. 
نعم تتكرر الحروب، وبأشكال مختلفة، لكنها في نهاية المطاف تتوقف لتفضي إلى تغيير ما، وبما أن كثيراً من التاريخ الذي توارثناه يحتاج إلى تدقيق وتمحيص، إذ إن التاريخ كما يقال يكتبه المنتصر، وهذه حقيقة مؤكدة، إذ إنه في الحروب والصراعات فإن نتائج الحروب، أياّ كانت لا ينطبق عليها بدقة أكبر سوى أنها تؤدي إلى تغيير.
باستثناءات قليلة، لا يوجد بلد، أو جماعة من البشر في مكان وزمان ما، تحارب من أجل الحرب في حد ذاتها، ولأن العالم دوماً في صراع، سواء بين الإنسان والطبيعة، أو بين البشر أنفسهم، فالحرب ضرورة وواردة في كل وقت، وعلى عكس ما يتصور المثاليون من دعاة السلام والوئام، وما إلى ذلك من المسميات، فإن الحرب في نهاية المطاف، جزء أساسي من النشاط البشري، سواء كانت بالسلاح في ساحات المعارك، أو بوسائل أخرى.
ولعل الحرب أيضاً عامل مهم من عوامل التطور البشري، فكثير من الابتكارات التكنولوجية تمت، وتتم في سياق الحرب، أو الاستعداد لها، كما أن الحرب بقدر ما تمثل أحياناً من خسائر وتدمير، فإنها أيضاً محفز قوي على التوسع في النشاط الاقتصادي، والنمو الذي يأتي بعد انكماش وركود، إلا أن كل ذلك لا يعني أن الحرب هي هدف في حد ذاتها، باستثناءات محدودة جداً في التاريخ، مثلما شهدت بعض الدول التي بنيت على احتلال استيطاني، وإبادة السكان الأصليين، كما في أمريكا الشمالية، وأستراليا، على سبيل المثال، ومحاولات استعمارية متفرقة في كل من قارتي إفريقيا وآسيا، لم يكتب لها النجاح، وانتهت في الأخير بتسويات ما.
يمكن القول إن كل التغيرات الكبرى في مسار البشرية على مر القرون، كانت بعد حروب كبرى، وبما أن البشرية في حالة ربما يجوز وصفها تعسفاً بأنها «حالة خمول حضاري» منذ نحو قرن من الزمن، فهي بحاجة فعلاً لحرب كبرى تحفز التغيير الكبير. ويعد تفصيلاً هنا شكل وطبيعة تلك الحرب، فغالباً ما تأتي أدبيات التنظير والتأطير بعد وقوع الحدث. سمّها ما شئت: حرباً عالمية، صراعاً حضارياً واسعاً.. إلى آخره من المسميات.
أتصور أن ما يحول دون وصول العالم إلى هذه النقطة، أي الحرب الكبرى، منذ ما بعد نهاية ما سميت «الحرب الباردة» التي أعقبت الحربين العالميتين بنهاية النصف الأول من القرن الماضي، هو الصراعات الأقل حجماً، والحروب المختلفة هنا، وهناك، على مدى العقود الماضية، وحتى الآن، فالأرجح أن تلك الحروب المتفرقة، رغم التضخيم الإعلامي والسياسي لها مثل «الحرب على الإرهاب» التي ضمت عشرات الدول لتحارب جماعة مارقة متطرفة، أو حروب غزو واحتلال، وتدمير دول في منطقتنا مثل العراق، وغيرها، ليست سوى عملية «تنفيس» لاختمار الأسباب المؤدية إلى حرب كبرى.
يذكّرنا ذلك بنظرية مهمة للسياسي والاستراتيجي الأمريكي من أصل بولندي، زبيجنو بريجنسكي، الذي عمل في إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وكان حينها يعمل مستشاراً للأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، من نهاية السبعينيات، حتى بداية الثمانينيات. 
رأى بريجنسكي أن من المصلحة، لتفادي الحرب الكبرى، وفي الوقت نفسه الحفاظ على المصالح وتعزيزها، اشتعال ما أسماها «صراعات ممتدة منخفضة الحدة» Protracted Low-Intensity Conflicts أو اختصاراً «بليكس»، لأن من شأن تلك الصراعات أن تقلل من مخاطر حرب عالمية، أو حرب كبرى للبشرية، وفي الوقت نفسه تستنزف جهود وقدرات الدول والمناطق المستهدفة في سياق استراتيجية أوسع.
هذه الحروب الصغيرة، من شرق أوروبا ووسطها إلى منطقتنا (الشرق الأوسط)، واحتمالات غيرها، في آسيا وأمريكا اللاتينية، وبالطبع في إفريقيا التي تنال النصيب الأكبر من تلك الصراعات المحدودة، تفرغ الضغط العالمي الذي يمكن أن يقود إلى حرب كبرى، لكن إلى أي مدى يمكن أن يستمر ذلك؟ وهل هناك بقع أخرى مرشحة لمثل هذه «البليكس»؟.
هناك مناطق توتر كثيرة حول العالم، وبعضها يتم النفخ فيه لتستمر نيرانه بقدر ما، أي من دون أن تؤدي إلى اشتعال حريق كبير، لكن الأمور غالباً لا تسير «كما هو مخطط له»، إذ يمكن لشرارة أن «تشعل السهل كله»، كما يقال. 
وإذا كان تنظير بريجنسكي كعالم سياسي واستراتيجي قبل عمله مسؤولاً في الحكومة، مناسباً لفترة تاريخية ما، فليس بالضرورة أن يظل صالحاً لكل زمان ومكان، فهذا شأن العلوم الإنسانية باعتبارها كلها «نسبية»، إلى حد كبير.
ربما يكون العالم فعلاً بحاجة إلى حرب كبرى، بخاصة أنه منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي يسعى العديد من القوى الدولية لإرساء «نظام عالمي جديد»، يؤسس لما بعد الحرب الباردة وانهيار الأيديولوجيات الكبرى، من دون أن يحرز أي تقدم، ولعل أي تغيير كبير مطلوب بحاجة إلى محفز كبير. من المهم الإشارة إلى أن كل عوامل التغيير التي يتحدث عنها البعض منذ فترة، من قبيل صعود الصين لتنافس في عالم متعدد الأقطاب أو تكوينات جديدة مثل دول «بريكس» وغيرها، ليست كافية للنقلة المنتظرة في مسار البشرية. لذا فإن صراعاً كبيراً وواسعاً يتجاوز مرحلة «البليكس» يبدو ضرورة الآن. كيف، ومتى ومن أين يبدأ؟ لننتظر، ونرَ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/vxa4mwu4

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"