عادي
في شاعرية البصر

«المحقق الجلي».. الخط بيت الحكمة

23:31 مساء
قراءة 3 دقائق
ياسر العشري

الشارقة: جاكاتي الشيخ

لا يزال الخط العربي يزيد المطّلعين عليه إبهاراً، ويجول بهم في آفاق الخَلق الجمالي اللامتناهية، سبيله في ذلك أنامل بعض الخطاطين المبدعين، ورؤاهم، التي تفصح عن القدرة البشرية على إيصال الدلالات العميقة للنصوص، في قوالب فنية محكمة الإتقان، ومن أولئك الفنان المصري ياسر العشري.
يعتبر العشري من الفنانين الصارمين المؤمنين بأن جمال فن الخط العربي، لا يمكن أن يبرز إلا إذا اشتغل الخطاط على الأسس الفنية لقوة الحرف، وسلامته البصرية، في القراءة والتصميم، والتناسب بين الكتلة والفراغ، ليجد المتلقي أمامه عملا متكاملاً خالياً من التشويه، وهو ما حرص على إتقانه طيلة مسيرته الخطية، التي درس فيها هذا الفن على أصوله، فكانت أعماله مُصطبغة ببهاء جمال هذا الفن العريق، مثلما يظهر في اللوحة التي بين أيدينا.
استلهام
استلهم العشري في لوحته شطراً من شعر علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول فيه: «وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ»، وخطّها بخط المحقق الجلي، لاعتبار المحقق – بشكل عام – من أصعب الخطوط، وأحسنها، فهو بديع وضخم، ذو جلال في نظر المشاهد، ويُرسم بشكل واحد بوضوح تام، مرسل الحروف، وقليل التقويسات، ولكلّ حرف فيه شكل ثابت، وليس بين حروفه من تشابه إلا ما يوجد بين حرفي الكاف واللام، ومع ذلك فهما يتباينان بالعلامة المميّزة برأس الكاف، إضافة إلى ميَلان عصاها، ومن خصائصه المميّزة كذلك أن حروفه تنفَّذ بدقة، مع تحقيق أجزائها، وأن منتصباته أطول من مثيلاتها في سائر الخطوط الأخرى، وألِفه مستقيمة وعريضة، وحركاته وضوابطه أنيقة، خاصة في جَليِّه، حيث يتكامل فيه التجويد والتنسيق، وتصبح بعض الحروف والكلمات متراكبة ومتقاطعة، والمدّات متنامية، ويزيّن بالتنقيط والتشكيل والعلامات الزخرفية، وكلها مميزات نجح العشري في إبرازها في هذه اللوحة.
ولكن خطاطنا لم يكتف بجماليات المحقق الجلي، بل عمَد إلى تَذْهيب عملِه المُنجز على الورق المقهر، حيث كتب حروفه بحبر أسود، وطَلَى تجويفاتها بالذهب، وعمل في العلامات الزخرفية والحركات عكس ما فعل في الحروف، فكتبها بالذهب وحبَّر تجويفاتها، وهي لمسات إبداعية منحت اللوحة جمالية مشرقة.
إن النص الذي اتخذه العشري مضموناً للوحته من قطعة شعرية تنضح كلّها حكمة، إلا أن هذا الشطر يختصر معناها، والذي يشير إلى لطف الله بعباده، لأن اللطف صفة من صفاته تعالى، و«اللطيف» اسم من أسمائه جلَّ وعَلا، ولهذه الصفة معنى مزدوج، فهو في أحد أوجهه إدراك كل الأمور، مهما كان قدرها، وعلم أسباب وجودها ومآلاتها والحكمة منها، وفي وجهه الآخر حسن التدبير، وتيسير الأمور بما تقتضي الإرادة والحكمة، وبما قد يكون ابتلاء يؤول إلى تفريج للكروب، وتيسير للأمور، وهو ما يتجلّى في الكثير من تقلبات الحياة التي قد لا يتوقّعها المرء، فهو لطف خفي من الله بعباده، لا يُحصر ولا ينفَد، وكلها دلالات تستحق أن تكتب بماء الذهب، وقد اقتنصها العشري ليكتبها به، في هذه اللوحة البديعة.
قيمة
كتب العشري نصّه ملتزماً بضوابط هذا الخط، وفي مقدمتها وضوحه، فخط كلمات الشطر بطريقة مسترسلة، مع تركيب خفيف، يستدعيه الأسلوب الجلي، ولا يشكّل عائقاً أمام استيعاب المتلقي للنص، حيث لا يجد صعوبة في قراءته، فبدأ بكتابة «وكم» مرسِلا الواو بمحاذاة الميم المرسلة بدورها، ليشكّلا في هيئتهما تناسقاً بديعاً مع العلامة المميزة لرأس الكاف، ثم كتب «لِله» في قلب تكوينه الخطي، بطريقة تجعل كل كلمة من النص تجاورها، إمّا كاملة، وإ بجزء منها، ليشير إلى شمولية إدراك الله لشؤون خلقه، وقربه من عباده، وقد ضخّم «كم» لتصل بفهم المتلقي إلى العمق الدلالي الذي تعنيه عظمة لطف الله وجلاله، ثم كتب «من»، ووصلها من طرف نونها ب«لُطف»، وراكَبَ هذه الأخيرة مع «خفي»، التي أرسل فاءها في اتجاه «لِلّه»، وقاطعها مع لام «لُطف» وعصا طائها، وقد كتب كلمات المقطع «من لطف خفي» متراكبة، ليُتِمّ المعنى الدلالي للنص، وكأنه ينبِّه المتلقي إلى وجود عطف الله مخفياً في كل تفاصيل حياتنا، من خلال محاولة إخفائه لكلمة «لطف» بين مجاوِرَتَيْها.
ومن أجل تأكيد تلك الدلالات فنياً، اختار ألواناً مُوحية، فكان لون الحبر الأسود رمزاً لثقة العبد المؤمن في لطف ربِّه الخفي، بينما كان امتزاج لون الورق المقهر والتذهيب رمزاً لقيمة هذه الحكمة الخالدة، كما كان وضع زخرفة منمنمة في أعلى اللوحة رمزاً إلى استحقاق مثل هذا العمل، المتكامل، مضموناً وشكلاً، لأن يخلد مُعلَّقاً في القلوب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/349c68ap

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"