علي قباجة
يبدو أن روسيا تسير بثقة كبيرة في عمليتها المستمرة منذ نحو سنتين ونصف السنة على أوكرانيا؛ إذ تواصل تقدمها السريع في شرقها، مقللة من شأن الهجوم الأوكراني على إقليم كورسك، وعلى الرغم من أن كييف حققت تقدمات ملحوظة، وسيطرت على مناطق شاسعة في المنطقة، فإن ردود فعل موسكو بدت «باهتة» وغير منسجمة مع التهويل الإعلامي العالمي، الذي عدّ ما حدث إهانة كبرى، وأول اختراق منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى ترويج سيمفونيات عن «الضعف الروسي».
روسيا تواجه حرباً عالمية على الأراضي الأوكرانية، بأعتى الأسلحة الغربية، وأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية، إلا أنها ملتزمة بوتيرة تصعيدية معينة في معاركها؛ حيث لم تلجأ إلى تعبئة جديدة، وظلت ملتزمة بمسمى «العملية الخاصة»، ولم تعلن الحرب، كما أن استهدافاتها في العمق منتقاة؛ إذ تضرب مراكز الدعم العسكرية، أو محطات الطاقة، ولم تحرق الأخضر واليابس في كييف أو المدن الكبرى، رداً على عملية كورسك، وهي بمقدورها فعل ذلك؛ لأنها قوة جبارة وتملك ما قد يغيّر الموازين بالأسلحة التقليدية، فضلاً عن الأسلحة النووية.
موسكو تسير بنفس طويل لأسباب عدة، أحدها اتباع أسلوب حرب الاستنزاف؛ إذ إن حسم الحرب بوقت قصير لم يعد يؤرقها كثيراً، فالشعب الروسي تاريخياً منسجم مع فكرة الحرب ذاتها، ويتكيف مع أي واقع جديد يُفرض عليه، وهو الذي صمد نحو 6 أشهر أمام حصار الجيش الألماني النازي على مدينة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية، كما خاض الكثير من الحروب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وواجه أزمة اقتصادية قاتلة، قبل تجاوزها.
لذا فإن طول المعركة فرصة لجر الغرب نحو المستنقع الأوكراني، وإضعافه عسكرياً واقتصادياً بالحرب الدائرة الآن، كما أن موسكو غير معنية باستهداف المدنيين، وإن وقعت خسائر في صفوفهم أحياناً، فهي في المجمل لا تريد إثارتهم واستعداءهم، في ظل تأكيدها أكثر من مرة أن البلدين يجمعهما الكثير من المشتركات؛ حيث اختارت ضبط النفس، لتحقيق أهدافها بعيدة المدى فيما يتعلق بمستقبل أوكرانيا وشعبها، وليس فقط السيطرة على الأرض وضمها.
أما فيما يتعلق بالسيطرة الأوكرانية على أجزاء من كورسك، فإنه رغم حرص موسكو على إعادتها، كما أكد بوتين، بقوله إن العملية «مصيرها الفشل»، فإنه غير معني بتحقيق هدف كييف منها بإيقاف الهجوم في الدونباس؛ حيث سارت الأمور بما لا تشتهي سفن أوكرانيا بتقدم سريع وحاسم روسي في أقاليم المنطقة، ما دفع زيلينسكي إلى التصعيد عبر مطالبة الغرب بالسماح له بضرب العمق الروسي، ومؤكد أنه لن يحظى بهذه الفرصة، لأن الغرب يدرك أن أي خطوة بهذا الاتجاه، فإنه يدفع موسكو للتخلي عن صبرها الاستراتيجي، وقد تسير الأمور نحو محرقة لا تحمد عقباها.