سجلت العديد من دول العالم انخفاضات كبيرة في أعداد المدخنين لديها. على سبيل المثال استطاعت فنلندا السير باتجاه تنازلي في نسبة المدخنين فيها، والتي تبلغ اليوم 11% فقط من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و64 عاماً ويواصلون التدخين يومياً، مع محاولات ومبادرات متواصلة لتقليص هذه النسبة. أما السويد، فتكاد تصبح خالية من الدخان في غضون عام. لكن في جهة أخرى من العالم، لا يزال مشروع تخفيض أعداد المدخنين بمثابة حلم صعب المنال.
المتمعن في النتائج المتناقضة لمحاولات تخفيض أعداد المدخنين بين بلد وآخر، سيجد أن السر إنما يكمن في نظرة المجتمع الطبي والصحي المتناقضة لبدائل النيكوتين.
في هذا السياق، يؤكد عدد من الأطباء وعلى رأسهم أخصائي الأمراض الرئوية في منطقة الرفاه في وسط فنلندا، كاري فينهو، والأستاذ المساعد وأخصائي علم وظائف الأعضاء السريرية في منطقة الرفاه في وسط فنلندا، كيرسي تيمونين، وطبيبة الأمراض الجلدية في منطقة خدمات الصحة في وسط فنلندا، ماريا هوتونين، بأن تبني بدائل النيكوتين والمنتجات البديلة الخالية من الدخان لا يشكل هدفاً رئيسياً لابتكارها؛ وهي التي تعتبر مدخلاً لبلوغ هدف الإقلاع النهائي الذي يظل الخيار الأفضل على الإطلاق، كما أنه يظل عاملاً فاعلاً في إنقاذ المزيد من الأرواح من خطر الوفاة المبكرة بسبب التدخين التقليدي للتبغ. بمعنى أوضح، التحول لهذه البدائل التي قد لا يخلو تماماً من المخاطر، إنما يبقى أخف وطأة من الاستمرار في التدخين التقليدي الذي يؤدي في نهاية المطاف للوفاة بسبب تبعاته الصحية السلبية.
وقد أشار الأطباء الثلاثة إلى أن تدخين التبغ التقليدي يتسبب بالعديد من الأمراض التي يعتبر من أبرزها مرض سرطان الرئة الذي لم تفلح سنوات طويلة من الخبرة السريرية في القضاء عليه. الأسوأ من ذلك، أن تبعات التدخين تمتد لتشمل الشعور بالذنب لدى المرضى تجاه أنفسهم؛ جراء استهلاكهم للتبغ، وهو ما أوضح الأطباء أنهم يلمسونه خلال متابعتهم اليومية للكثير من الحالات المرضية.
ويقول الأطباء الثلاثة وهم خبراء في مجال الصحة العامة، بأن أعداد المدخنين حول العالم لا تزال مخيفة، وهو ما لا يرضى عنه المجتمع الطبي والصحي الواعي.
ويرى الأطباء بالحديث حول أسباب انخفاض أعداد المدخنين في فنلندا والسويد، بأن تبني استراتيجية الحد من المخاطر كانت العامل الأساسي في النتائج المتحققة في الدولتين في ما يتعلق بمكافحة التبغ.
في فنلندا التي كان المرضى من المدخنين فيها يحاولون التوقف والإقلاع عن التدخين، لكنهم في نفس الوقت لا يزالون يرغبون باستهلاك النيكوتين، اتجه الأطباء للانفتاح على استراتيجية الحد من المخاطر؛ لمنح المرضى النيكوتين الذي ثبت أنه ليس المسبب الرئيسي للأمراض المرتبطة بالتدخين، وإن كان قد يسبب الإدمان ولا يخلو من المخاطر، مع تجنيبهم - بأكبر قدر ممكن - التعرض للمواد الكيميائية التي يحتويوعليها دخان السيجارة الناتج عن احتراقها والتي تؤدي لتأثيرات إدمانية نفسية وفسيولوجية تخلق حاجزاً ومانعاً للإقلاع عن التدخين، والتي تتحمل المسؤولية في المقام الأول عن غالبية الأضرار والأمراض المرتبطة بالتدخين.
أما في ما يتعلق بالسويد، فكانت تتعامل مع التدخين والإدمان الذي قد يتسبب به النيكوتين بمنهجية وضعت عبرها على عاتق حكومتها، مساندة المدخنين لإنقاذ حياتهم، ومنحهم الفرصة لخوض رحلتهم ضد التدخين بشكل مختلف عما هو سائد، فوفرت لهم بدائل قد تكون أفضل عن التبغ، مثل منتجات السنوس (تبغ المضغ)، وأكياس النيكوتين الحديثة، والسجائر الإلكترونية، ومنتجات التبغ المسخن التي ثبت بالأدلة العلمية صحة الادعاءات القائلة بأنها أقل خطورة من السجائر العاملة بالاحتراق؛ لأن البخار الذي تولده يضم مواد كيميائية أقل بنسبة 95% من المواد الكيميائية التي يتحتويها دخان السجائر، وسمحت بتداولها بأسعار مقبولة.
ومن المتوقع أن تتمكن فنلندا من الوصول لهدفها بأن تصبح دولة خالية من التدخين، مع وجود ما يقرب حوالي 300 ألف شخص ممن سيقلعون عن تدخين السجائر التقليدية، لكنهم سيواصلون استهلاك النيكوتين بأشكال أخرى مما يحصلون عليه من الصيدليات أو المتاجر أو من أماكن أخرى. وتشير البيانات الصادرة عن الجمارك الفنلندية إلى أن إضفاء الشرعية على أكياس النيكوتين أدى إلى تراجع عمليات تهريب هذه المنتجات وتداولها بشكل غير قانوني، إلا أن الضرائب المرتفعة على أكياس النيكوتين قد تشجع أنشطة التهريب، وهو ما يفسر سبب انخفاض معدلات التدخين في السويد عنها في فنلندا.
ويختم الأطباء الثلاثة بأن واجب الطبيب يحتم عليه في حالات كثيرة الاختيار بين الخطر والأقل خطورة لما فيه مصلحة المريض، وهو ما يعني في رحلة الكفاح ضد التدخين، وجوب تحويل المرضى الذين لا يريدون الإقلاع عن التدخين إلى النيكوتين غير القابل للاحتراق كخيار قد يكون أفضل من استهلاك التبغ من السجائر التقليدية.