الشارقة: جاكاتي الشيخ
ربما لا يعرف الكثير من المتلقين أن تنوع الخط العربي لا يقتصر على أنواع الخطوط الشهيرة فحسب، بل هنالك بعض الخطوط المتفرعة من تلك الأنواع، حيث يتميز كل فرع بسِمَاته الخاصة، التي قد تجتمع مع سواه من خطوط النوع الواحد في الشكل العام، ولكنها تختلف في التفاصيل والهيئة، ومن بين الذين يبرز في أعمالهم تنوع فروع الخط العربي سامي سليمان ندَّة.
رغم تركيز ندَّة في دراسته على خطي الثلث والنسخ، إلا أنه يمارس فن الخط العربي بمختلف أنواعه، حيث أتقنه وقدّم فيه العديد من الأعمال اللافتة، ولكن تميزه يتجلّى بشكل أوضح في إبداعه لفروع تلك الأنواع الخطية، وإبراز ما تتمتع به من جماليات تكشف الكثير من خبايا هذا الفن الأصيل، وهو ما تمثل لوحته هذه نموذجاً له.
رسم هندسي
خطّ ندَّة في لوحته نص الآية ال 3 من سورة الأحزاب، الذي يقول فيه الله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا}، وكتبها بالكوفي القيرواني، وهو واحد من الخطوط البديعة، ويتميّز بأنه خطّ كبير الحروف، لا تكاد تنفصل أجزاء حروفه عن بعضها بعضاً إلاّ بخيط رقيق مُستَوٍ، ويمتاز ببعض التمديد في وصل حرف بآخر، وترسم بعض أجزاء حروفه رسماً هندسياً دقيقاً، وذلك لتفاوت مستويات الحرف الوحد، إذ يكون غليظاً في جزء منه ورقيقاً في جزء آخر، أمّا مَحاجِر الحروف فتكون عيونها ضيقة جدّاً، وتُرْسم اللام ألف على شكل خطّين منحنيين ومتقاطعين يرتكزان على مثلث، وتُرسم سنَّات السين والشين، والسنّات الأخرى المتتابعة متدرّجة في القِصر، فالسنّة الأولى تكون أرفع من الثانية، والثانية أرفع من التي تليها، ومثل ذلك في الأصابع أيضاً، كأصابع اسم الجلالة «الله»، وكلها خصائص اجتهد ندَّة على الالتزام بها في لوحته لتأكيد جمالية هذا الخط.
وتدعو الآية المخطوطة إلى التوكل على الله، الذي خاطب بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلّم، ليكون أُسوَة للمؤمنين، فهي أمر لكل مؤمن بأن يعتمد على ربِّه، ويفَوِّض جميع أموره إليه، وكفى به وكيلاً، فلْيَثِق باللّه في حصول مبتغاه مهما كان، لأنه خير من توكل إليه الأمور فيقوم بها، بما هو أصلح للمؤمن، وذلك لعلمه بمصالح عباده، من حيث لا يعلمون، وقدرته على إيصالها إليهم، من حيث لا يقدرون، وأنه أرحم بهم وأرأف من أنفسهم، ومن كل أحد، وخاصة أولئك الذين يؤمنون به حق الإيمان مفوّضين إليه كل أمورهم، فيربِّيهم بِبِرِّه، ويُدِرُّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة، فإذا بالعسر يَتيَسَّر لهم، والصعب يسهل عليهم، وخطوب الدنيا تهون لديهم، وكروبها تزول عنهم، وتتحسّن أحوالهم، وتُقضى حوائجهم، وترفع عنهم الشرور، فيقومون بما لم يتصوّر أحد أن بإمكانهم النجاح فيه، وهي المعاني التي أراد ندّة تجسيدها في اللوحة.
ضبط
نفّذ ندّة لوحته بأسلوب مميز، أظهر من خلاله جمال خط الكوفي القيرواني، وما يتميز به من تناسق، فصمّم تكوينه بشكل مُعَيّن، وضبط في قالبه كل الحروف والكلمات، حيث كتبها بطريقة متقنة، بادئاً بالواو التي جعلها في قمة الواوات، ليكتب الأخريات بشكل تنازلي بديع، مع المحافظة على موضع كلِّ واحدة منها في كلمتها، ثم كتب «توكّل» بكاف بديعة أيضاً، ليكتب كذلك كل الكافات الأخريات بشكل تنازلي متراكب ومتناسق، مع المحافظة على موضع كل واحدة منها في كلمتها أيضاً، ثم كتب «على» مازجاً لامها مع لام «توكّل»، ليشير إلى ضرورة التوكل على الله وحده، مؤكداً ذلك بكتابة اسم الجلالة «الله» بعدهما مباشرة، والذي رسَم ألفه أرفع من لامِه الأولى، ورسم لامه الثانية أقل ارتفاعاً منهما، مشكّلاً برسم الهاء الضخمة استمراراً لتدرج حروف الكلمة، ثم كتب «كفى» التي مدّ الجزء السفلي لألفها المقصورة لتشكّل امتداداً للخط الأفقي من حرف الكاف المقابل لها، ثم كتب «بالله» بنفس الطريقة التي كتب بها «الله»، وختم بكتابة كلمة «وكيلاً»، التي رسم لام ألفها بشكل متقن، وكأنها كفّان يتضرعان إلى من عليه التكلان، وقد مدّ هذه الكلمة وجعلها حاملة لكل النّص، للإشارة إلى أن التوكل على الله يكفي العبد في كل شيء.
وقد اختار الخطاط الكتابة باللون الأسود لما يرمز إليه من ثقة، تمثلها في اللوحة ثقة المؤمن في الله بتوفيقه، كما قام بتذهيب زخرفي ثمين، يؤكد القيمة الإيمانية لذلك التوكل، وما ينتظر صاحبه من توفيق في الدنيا، وثواب في الآخرة.