كيف قرع المقال باب «الخليج»؟

00:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. نسيم الخوري

صحيفة «الخليج» كانت حاضرة دائماً وأبداً لدى رئيس الحكومة اللبنانية سليم الحص الذي غادرنا في ال 25 من أغسطس/ آب الغابر وأوراقه ومقالاته شاهدة مكدّسة من حوله. كنت تطرح عليه سؤالاً فيُزوّدك بمقالٍ نشره في صفحة «الرأي»، تراه سعيداً بتعميم أفكاره الوطنية بلا تفرقة وانفعالات.
كان الحص يعتز بصداقته مع الدكتور عبدالله عمران تريم، مؤسس صحيفة «الخليج» عام 1970 مع شقيقه تريم عمران تريم، رحمهما الله، أكتب هذا وفي خلدي أن عبدالله والحص، رحمهما الله، يلتقيان لأعود متذكراً شاكراً كيف قرعت باب «الخليج» وأفتخر.
دعيت إلى غداءٍ على شرف الدكتور عبدالله عمران تريم في فندق الحبتور في سن الفيل.. شاءت الأمور أن أحلّ على طاولة الشرف، قدّمني الرئيس الحص للدكتور عبدالله بصفتي أستاذاً ومديراً لكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، وعاشقاً من عُشاق المقالات.
دار حديث راقٍ وشائق، ورحت أقص عن البهجة التي تغمر الحص ليغلفها بابتسامته الدائمة عندما يقرأ مقاطع من مقالاته في دارته في «عايشه بكار»، وقد يقدمها كما يقول نسخاً لزائريه المقرّبين.
طرح الدكتور عبدالله تريم يومذاك مسألة مهمة حول مستقبل الصحافة وتحولاتها بين الموهبة والمهنة التي تستوجب دراسات وشهادات، وكان تبادلاً مفيداً وثميناً همس خلاله الرئيس الحص للدكتور عبدالله عمران: «أنصح بقلمه».. هكذا كان، ولم أزل.
جاء المقال مفتاح باب «الخليج»، وكان المقال جسر لقائي الأول بالرئيس الحص في العام 1969، إذ كان ينشر مقالاً اقتصادياً شهرياً في مجلة «المصارف» اللبنانية التي كان يملكها ذو الفقار قبيسي، رحمه الله، وكان لي فيها زاوية مقال.
بقي سليم الحص مسكوناً طوال حياته باللغة العربية والعروبة والشفافية والنظافة والاستقامة والعشق وكتابة المقالات والملاحظات بأقلام الرصاص، وهو الطامح أبداً إلى أن يكون دكتوراً وأستاذاً جامعياً في اللغة العربية وآدابها لا نائباً ولا أستاذاً في الاقتصاد ولا في السياسة ولا حتى نائباً لدورتين ولا رئيساً لخمس حكومات كما حصل، وحمل وقاسى ونجح في أحلك الظروف التي عرفها تاريخ لبنان المعاصر.
هكذا تم تاريخياً تأسيس «منبر الوحدة الوطنية، القوة الثالثة»، وأصرّ الحص عليّ شخصياً بأن أتولى الناطق الرسمي باسم المنبر الذي لم يدم طويلاً، وخلال العام 2007، نشطنا نخباً وسياسيين برئاسته إلى القيام بجلسات مطوّلة مع الرؤساء الثلاثة حينها ومعظم رموز القوى السياسية، عارضين مبادرات وأفكاراً ومناقشات طويلة مضنية تُبعد اللبنانيين عن الحروب الأهلية التي راحت، كما يحصل اليوم للأسف، تلوح في التصريحات والمواقف معلنة اشتداد الأزمات والفراغات في الدوائر الرسمية والدعوات إلى الفيدراليات والتقسيمات، وغيرها من الأفكار والمشاريع الجنونية.
كان هذا في ظل استكمال قوى المعارضة تحركاتها لإسقاط رئيس الحكومة عبر العصيان المدني، وقد عارضه المنبر باعتبار أن الأوضاع لا تُحل بالعنف، ناسفاً ما تم وصله في خشب لبنان المندثر، كانت أمريكا تدعم بالمُطلق ما سُمّيت يومها «الحكومة العرجاء» إلى درجة لم ولن يستطع أي تحرك إسقاطها.
ومع استمرار تعطيل المؤسسات الدستورية وغياب الحوار بين القوى اللبنانية بعد اشتداد الأزمة السياسية عبر أحداث 23 و25 يناير/ كانون الثاني 2007، أطلق المنبر ميثاق شرف بتاريخ 31 من الشهر نفسه، دعا فيه إلى التزام الميثاق الوطني وعدم اللجوء إلى أي نوع من أنواع الأسلحة، بهدف حلّ المعضلات الشديدة التعقيد بين الفرقاء مهما كانت خلافاتهم وتباعدت مصالحهم.
حملنا يومها نص الميثاق الذي اتفقنا حول صيغته، وأوفدنا الرئيس الحص إلى المرجعيات، وكان من نصيبي رئاسة وفد إلى الرابية لزيارة العماد ميشال عون، والحصول على توقيعه بعدم استخدام السلاح قطعياً في الداخل، وكذلك مع وفد لزيارة حسن نصرالله للحصول على توقيعه أيضاً.
جاءت الوثائق بالنتيجة موقّعة من الرؤساء: رشيد الصلح، عمر كرامي، سليم الحص، وميشال عون (الذي ما زلت أحتفظ بوثيقة توقيعه)، فيما امتنع نجيب ميقاتي عن التوقيع، وفي إطار عرض هذه الوثيقة على القوى السياسية، واجهنا مقاطعة القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل، فكان أن أُفشلت دعوة المنبر، وصارت حية في الأرشيف.
عدنا في «منبر الوحدة الوطنية»، إلى واجهة العمل السياسي في الأيام الأخيرة من أكتوبر/ تشرين الأول 2007، بعدما اقتصر عملنا على إصدار البيانات المكثفة واتخاذ المواقف وعقد المؤتمرات الصحفية، ليطرح المنبر مبادرة تهدف إلى تأمين عبور آمن نحو الاستحقاق الرئاسي، حتى في ظل الفراغ الرئاسي تماماً كما يحصل اليوم أيضاً وأيضاً.
غادرنا الرئيس الحص واجتمع لبنان المتشظي جداً جداً فرافقه صامتاً إلى مثواه الأخير، ولم يبقَ أحد لم يرثِ من أورثنا شرف فنون المواقف والكلام، الذي نرغب أن يمتلكه الجميع في الوقت الذي يُحسد فيه القادرون على قوله وممارسته، أولئك الذين تربوا وتمرّسوا بالديمقراطية لا بالشجاعة ولا بالثراء، وإنّما بالكلام الوحيد الديمقراطي في القول والممارسة الذي يرفع منزلتهم الوطنية.
الكلام والموقف الحر أحجار الزوايا لفهم معنى الديمقراطية وكشف التربية السياسية، والذين يتفننون فيه هم أصحاب سلطة واقتدار ليس في أوطانهم وحسب وإنّما لدى المواطنين والأجيال.
هم أصحاب شرف وحظوة وسلطان أينما كانوا فوق عروش السلطة والسياسة والصحافة أو فوق بساط الشيخوخة أو التقيا شباباً في السماء كما يلتقي الحص وعمران بمشيئة الله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2zrbkddk

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"