خلوة بعيداً عن الضجيج

00:09 صباحا
قراءة دقيقتين

يُولد الإنسان ويعيش، ربما حتى لحظة مماته، وسط ضجيج الحياة. وحتى لو كان المرء ميّالاً بطبعه إلى العزلة، فإنه ليس حراً في تحقيق ذلك لكونه يعيش بين الناس. والعزلة ليست، في كل أحوالها، أمراً مفيداً، فلعلّها تكون العكس. الإنسان كائن اجتماعي في تكوينه، وطبعه، ومن اختلاطه وتفاعله مع المحيط الذي يعيش فيه، يكتسب التجربة ومنها يتعلم، لكن هناك نوعاً حميداً من العزلة هو ذاك الذي دعاه سلامة موسى «الخلوة».
وليست غاية فكرة الخلوة أن تكون نقيضاً لاجتماعية الإنسان، وإنما هي مجرد استراحة نحتاجها بين الحين والآخر، من ضجيج هذه «الاجتماعية». ويستشهد سلامة موسى بتجربة المهاتما غاندي الذي خصصّ يوماً للصوم عن الكلام نهائياً، لا يُكلمه فيه أحد، ولا يُكلم هو بدوره أحداً، لكون هذا الصوم يوفر له شيئاً من الخلوة مع نفسه، لأن محادثة الآخرين تعني ولوجك العوالم التي تريد أن تتحرر منها، ولو إلى حين.
ليس بوسع الناس محاكاة غاندي في ما فعل، فالمسألة عنده أشبه بالطقس الروحي الذي لا يحسن أداءه إلا القلة النظيرة له، في التكوين والرؤية، لكن ذلك لا يمنع أن يحاول المرء أن يخطف لنفسه خلوة. وبرأي سلامة موسى فإن تنظيم كل منّا لخلواته، واعتماد ميعاد معين لها في الشهر، أو الأسبوع، ويوم كامل أو بعض يوم، يجعلانه «يجد أنه بمراجعته لحياته الماضية، وفي تبصره بالمستقبل، قد اهتدى إلى أساليب وأهداف ما كان سيصل إليها، لو أنه استسلم وانساق في المجتمع».
أما لماذا يحدث ذلك، فلأن «الحياة الاجتماعية التي تلابسنا في البيت والقهوة والنادي والمكتبة، بل حتى في الجريدة والكتاب تحول دون التفكير المثمر، وتشغلنا بتوافه وصغائر تتبدد بها حياتنا»، فيما الخلوة «تجمع تفكيرنا في بؤرة وتفتح لنا نوافذ على فضاء آخر قد نجد فيه ما نتغير به إلى أحسن».
عقود طويلة مرّت منذ أن كتب سلامة موسى ما كتب حول هذه الخلوة. يومها ما كانت الكثير من وسائل الترفيه التي نعرفها اليوم قد نشأت بعد، ولم يكن قد اخترع، حينها، الهاتف الجوّال الذي بات يلازمنا في الصحو، والمنام، والأشد تأثيراً من ذلك هو أن هذا الهاتف الجوال نفسه أصبح عالماً افتراضياً بكامله، شاسع المساحة، حتى يكاد يكون أشبه بالمتاهة، فأخرجنا من الواقع الفعلي الذي دعانا موسى للهرب منه إلى الخلوة، لأننا اليوم لم نعد نميّز أين هو الواقع، أيكون في الحياة التي عرفتها أجيال سبقتنا وخبرناها نحن أيضاً، أو هو العالم الافتراضي الذي استحوذ على حياتنا؟
فإن كانت من خلوة منشودة اليوم فإنها يجب أن تكون من هيمنة هذا الافتراضي علينا.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4hyryp78

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"