د. مصطفى خليفة*
القصة القصيرة من أكثر الفنون الأدبية انتشاراً، ومن أقدرها تعبيراً عن أزمة الإنسان المعاصر، فهي مثل قلب الإنسان مأزومة مبتورة، لكنها في الوقت نفسه ذكية ناضجة، لا صبر لكاتبها ولا لقارئها على الإسهاب، فالكلمة فيها تغني عن الجملة واللمحة تغني عن الحكاية.
لذلك نجحت القصة القصيرة كجنس أدبي ثري في توجيه نظر الدارسين والنقاد على اختلاف مشاربهم وتباين مناهجهم إلى ما تزخر به من إمكانات العزف على أوتار الحياة اليومية، فأصبحت القصة القصيرة دعامة من دعائم الأدب الحديث، تشكل ضرباً من ضروب الأدب وفنونه، وشاعت كتابتها شيوعاً واسعاً حتى عدت في وقت وجيز أهم أبواب الأدب وأصبحت ممارستها قبلة للشباب حين يقفون في هيكل الفن.
و«غرفة المعلمات» مجموعة قصصية للكاتبة موضي العبلاني، تقع في مئة وأربعين صفحة، تضم بين دفتيها ثلاثين قصة، بدأتها الكاتبة بإهداء رقيق لمَنْ كانا سبباً في حصادها الفكري والأدبي، والديها، ثم مُقدمة ذكرتْ فيها الكاتبة أنها وضعت بين يدي القارئ عدة نصوص جاءت على أشكال فنية مختلفة، فقد اختارت في بعضها القصة نهجاً وطريقة للبوح بها، وتوجهت في بعضها إلى المقال وإن كانت في قالب قصصي، كما جاء بين الشكلين بعض النصوص الذاتية.
*ظواهر
وتهدف قصص المجموعة ذات الاتجاه الاجتماعي إلى نقل ظواهر المجتمع المدرسي من قيم ومبادئ وعلاقات بين أفراده، والتعبير عن أحلامه وآماله وآلامه، كما تكشف عن وعي الكاتبة بمعاناة أفراده اليومية من مواقف ومفارقات وأحداث، وكشف مواطن الخلل في العلاقات الإنسانية والتحولات في المجتمع وسلوك أفراده.
كما تسعى الكاتبة إلى عرض صورة الحياة المدرسية كما عاشتها، ووصفها وإعلاء القيم الإنسانية بما عند الكاتبة من ذكريات ومشاهدات؛ فكتبت قصصها لتنقل لنا صورة العلاقات الاجتماعية التي تدور في نطاق المجتمع الصغير الضيق، تتلمس المشكلات الاجتماعية والقضايا التي تشغل بال المعلمات، وتقتنصها من هنا وهناك، وتعرضها من خلال القصة كقضية اجتماعية مع تصورها الخاص في إطار سردي قصصي.
ونبدأ قراءتنا النقدية باللغة ويأتي حديثي عن توظيف اللغة في المجموعة عبر ثلاثة مستويات: الأول: السردي، الثاني: الحواري، الثالث: الوصفي.
*وضوح وكثافة
لقد سيطرت الفصحى على لغة الكاتبة، فجاءت لغتها فصحى واقعية بسيطة في بعض جوانبها، كما تميزت لغتها بوضوحها وكثافتها ومباشرتها فضلاً عن المتعة التي تتركها في نفس القارئ.
ولعل نزوح الكاتبة إلى ذلك النموذج البسيط في اللغة، بسبب موضوعاتها التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي، فمالت إلى استخدام اللغة القريبة السهلة البعيدة عن الانزياح والشاعرية، لقد تحرت الدقة في انتقاء اللغة التي تقوم بالدور المنوط.
والراوي هنا بضمير المتكلم الذي يعرف كل شيء عن السرد والحدث والشخصيات فيما يبدو كأنه يروي حياته؛ لذلك نجد هذا النمط في المجموعة القصصية موجوداً في كل قصص المجموعة، ويظهر هذا من خلال قصة (زهرة وفاء) على سبيل المثال: «افتقدت في هذا الصباح زميلتنا زهراء، مكانها يضج بالصمت، حرصت على المرور إلى حجرة المعلمات لرؤيتها وإعطائها مبلغاً من المال قد طلبته سلفة».
وقد وفقت الكاتبة في استخدام ضمير المتكلم في مجمل قصصها، وذلك لانسجامه مع المضمون الذي يهدف إلى تسليط الضوء على عنصر الشخصية أكثر من الحدث.
أما لغة الحوار فقد استخدمت الكاتبة اللغة الفصحى في تقديم الحوار، ولو على لسان طالبة من طالبات المدرسة نقرأ «في البداية نظرت الطالبة إلى الأرض، ثم رفعت عينيها إلى معلمتها في خجل وارتباك، وهي تقول:هذا الصوت يذكرني بحادث سيارة تعرضت له أنا وأسرتي، كنا نسمع في السيارة الراديو وكان صوت الجرس هو الفاصل في البرنامج عند وقوع الحادث، وكان هذا الصوت مثل صوت جرس المدرسة، وكلما سمعت هذا الصوت أتذكر شدة ارتطام جسدي بزجاج السيارة وينتابني الخوف والذعر الشديد.
ويقوم الحوار في قصص المجموعة بدور واضح ومهم فمع وجود الحوار يقترب النص من لغة الواقع أكثر، ومن شروطه الفنية من التركيز والإيجاز والسرعة في التعبير عما يدور في ذهن الشخصية من أفكار».
والقارئ للمجموعة يلحظ أن الكاتبة قد واءمت بين لغة السرد ولغة الحوار، فلا يجد القارئ هوة كبيرة بينهما، ما يسهل عليه الانتقال بينهما دون الشعور بتباعد المستويين عن بعضهما البعض.
و نجحت الكاتبة في توظيف الوصف لخدمة السرد، حيث تخلل الوصف في السرد معظم أجزاء قصصها من ذلك عندما استهلت قصتها «التلاعب بالمفاهيم القديمة» بالوصف تقول:
«حنان تلك المعلمة المبتسمة، التي تبث طاقة إيجابية في كل من يقابلها، باتت ذابلة سرحانة».
ونقرأ وصف الطبيعة: «هذا الصباح كان مختلفاً، حيث تهب نسماته مع برودة، وزخات خفيفة من المطر».
ونقرأ كذلك في وصف مديرة المدرسة «كانت صارمةً، ولا تقبل أيَّ تهاون، ولا استخفاف بالرسالة التعليمية وتربية الطالبات، لكن بداخلها كانت ملاكاً من السماء يريد الخير للناس، كل الناس».
فكل ذلك أعطى صورة بصرية نُقلت إلى ذهن المتلقي عن طريق السرد فيعيش الحالة ويتأثر بها.
*الحدث
القصة في الأصل ترتكز على حدث أو مجموعة أحداث، تتآزر جميع عناصر القصة في خدمة هذا الحدث وتصويره، ويأتي في القصة القصيرة مركزاً يتم التعبير عنه بلغة محكمة لا تحتمل الاستطراد.
وقد استمدت الكاتبة أحداث قصصها من واقعها الاجتماعي المدرسي اليومي، من أفراح وأحلام، ومن معاناة للمعلمات، فأخذت تعبر في قصصها عن آمال وآلام مجتمعها فكانت مورداً لأفكارها.
والطريقة التقليدية هي الغالبة في بناء الأحداث في معظم قصص المجموعة، وهذه الطريقة التقليدية ترتكز على ترتيب الأحداث بطريقة تتجه نحو الأمام، حيث يبدأ الراوي بتقديم الشخصيات والتمهيد للأحداث، ويقود القارئ نحو التأزم، أما الحل فيأتي في خاتمة القصة، ويرتبط بقانون التتابع والسببية.
*تفاعلية
وقد سردت الكاتبة أحداثاً كثيرة لها تأثيرها في السرد، وبالتالي تأثيرها في المتلقي وإدخاله في حالة من الاندماجية والتفاعلية بينه وبين الشخصيات والأحداث. من هذه الأحداث ما يحدث في رحلة الذهاب إلى المدرسة نقرأ: «لست الوحيدة التي تذهب في رحلة يومية طويلة إلى مقر مدرستها، فتبدأ رحلتها منذ الصباح الباكر، هن كثيرات مثلي، لكنني أخجل عندما أتذمر أو حتى أشعر بالتعب، من هذه الرحلة التي تستغرق نحو الساعة والنصف؛ لأن هناك معلمات يبدأ يومهن قبل الفجر، حيث يستغرق الطريق أربع ساعات ذهاباً، وأربع ساعات إياباً، إحداهن صديقتي وضحى، تعمل معي معلمة وتحضر إلي مقر المدرسة من مدينة أخرى».
*الشخصيات
معظم شخصيات المجموعة محددة الأسماء أو الهوية، كما نجد أن الكاتبة قد اختارت شخصياتها القصصية من واقعها وحياتها اليومية، فقد استخدمت شخصيات حقيقية واقعية حية تعيش في واقع المجتمع وتحيا فيه، فهي شخصيات من لحم ودم تحب وتكره وتكافح وتحزن فهي شخصيات مستمدة من الواقع؛ لتكشف لنا ما يختبئ في دواخل الناس، وتخرج الصراع بين الشخصية وذواتها وبين الشخصيات ومحيطها الاجتماعي.
وكل شخصية من شخصيات القصة – في الغالب – عند الكاتبة لها ظروفها الاجتماعية وملامحها الشخصية والنفسية.
كما نلحظ أن الكاتبة قد رسمت لنا شخصياتها ـــ في الغالب ــ بأبعادها المعنوية نقرأ:«كانت مجرد إنسانة وفية طيبة، لكنها عابرةٌ تحملُ لقب معلمة، تركت انطباعاً عميقاً في قلب وعقل طفلة في عامها الأول ومضت، وهكذا هم ملائكةُ السماء يتنزلون بالرحماتِ، وسرعان ما يعودُون نحو السماءِ».
لقد وظفت موضي العبلاني الزمن في قصصها الاجتماعية أزمنة مختلفة منها الاسترجاع وهو: «مخالفة لسير السرد تقوم على عودة الراوي إلى حدث سابق، وهو على عكس الاستباق، ويمكن أن يكون الاسترجاع موضوعياً أو ذاتياً، وتكون وظيفته – في الغالب – تفسيرية تسلط الضوء على ما فات أو غَمض من حياة الشخصية في الماضي، أو ما وقع لها خلال غيابها عن السرد».
فالكاتبة اعتمدت في بعض قصصها على الاتكاء إلى الزمن الماضي مستدعية بعض مفرداته للتعرف إلى ماضي الشخصية ومقابلتها بين الماضي والحاضر وذلك في قصة (قائدة صارمة، ولكن)، أيضاً نجد الزمان الحاضر وهو الزمن الذي يقع بين الماضي والمستقبل وهو الزمن الذي يعيشه الإنسان الراوي والسارد، وهو امتداد للزمن الماضي تسير الأحداث فيه وكأنها الآن.
أما المكان في مجموعة (غرفة المعلمات) فجميع قصصها كان محدداً بالمدرسة، وقد حرصت الكاتبة على تقديم شخصياتها وهي تتحرك في وسط اجتماعي معين، تبدو فيه خصوصية المكان والزمان، وحرصت كذلك أثناء تشكيلها للفضاء المكاني الذي ستجرى فيه الأحداث على أن يكون بناؤه منسجماً مع مزاج شخصياتها وطبائعهم، وألا يتضمن آية مفارقات.
*عمق
والخلاصة أن مجموعة (غرفة المعلمات) القصصية بشكل عام تدور في أفلاك رئيسة هي: (قضايا المرأة، قضايا التربية، قضايا كونية تبحث في علاقات الذات والآخر داخل هذا الكون).
وأن هذه المجموعة تُعتبر عملاً أدبياً عميق المضمون منسجم الشكل تدرك كاتبته مسؤوليتها الإبداعية تجاه المجتمع فتختار من القضايا والأفكار والرؤى زوايا تكشف الحقائق، وتجلي المعاني لتوصل إلى القارئ رسالة مملوءة بالقيم والمبادئ والعبر والعظات المستمدة من الماضي والحاضر وهو ما يبدو في اختياراتها لموضوعاتها القصصية وطريقة تناولها.
*عضو هيئة التدريس في قسم الأدب والنقد، جامعة الأزهر.