الشباب العربي بين الرؤى الإنسانية والروابط القومية

00:54 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ناصر زيدان

تفرض العصرَنة نمطية جديدة عند الشباب، ويزداد تأثير هؤلاء في مساحة الحياة العامة، نظراً لازدياد عددهم من جهة (تُقدر الأمم المتحدة وجود 1,8 مليار شخص أعمارهم بين 10 و24 سنة)، ولأن الشباب يتفاعلون أكثر من غيرهم مع التطور التقني ومع عالم الأرقام الذي دخل في كل المجالات، وتغلغل إلى كل الزوايا، بما في ذلك إلى الوسط الذي يُحدِّد الانتماء السياسي والقومي للأفراد.
التحديات التي تواجه الشباب العربي مُتشابهة في أغلب أوجهها مع التحديات التي تواجه الشباب في العالم، والفوارق البسيطة لا تكفي لتأسيس مقاربة خاصة، فارتفاع منسوب البطالة في بعض الدول العربية ليست ظاهرة عربية خاصة، بل هناك ما يُشبهها في دول أخرى من العالم، وبقاء آثار للأُمية في بعض المناطق، لا يعني بأي حال أن هذه الوضعية طاغية، أو أنها عصية عن المعالجة، رغم أن تراجع منسوب التعليم في بعض الدول العربية المنكوبة، لم يحُل دون انخراط شبابها في مسيرة العصرنة الرقمية، ولو كانوا ضحية للفقر والإهمال والتشرُّد في بعض الأحيان.
الدول العربية مُتقدمة على مستوى وجود فئة الشباب بين سكانها، وهي تقع وسط العالم الذي تتجاذبُه الأهواء الرقمية والمصالح الكبرى، وقد تكون مستهدفة أكثر من غيرها في الاستقطابات التي تعمل لها دول كبرى مؤثرة.
في المقابل، فإن مناعة الشباب العربي مُتقدمة عن بعض الآخرين في بعض المجالات، خصوصاً بالتمسُّك باستخدام اللغة العربية نسبياً، وفي الحفاظ على بعض التقاليد التي تُميز المواطن العربي في تعاطيه الإنساني مع الآخرين، رغم أن جزءاً مهماً من الشباب العربي منتشر في دول العالم على اختلافها، بعضهم بسبب الهجرة طلباً للعمل، وبعضهم لتحصيل العلم، وعدد قليل هرباً من الحروب وبسبب التهجير القسري.
يمكن الملاحظة بوضوح أن أهواء الشباب العربي في القضايا السياسية تغلبُ عليها الرؤى الإنسانية، أكثر مما تغلب عليها الرؤى القومية، ويتفاعل مجموعة كبيرة من هؤلاء مع الملفات المؤلمة في الوطن العربي، كونها مآسيَ يتعرَّض لها ناس أبرياء، وتستوجب الرأفة الوقوف معهم، ومساعدتهم أحياناً.
ويتشابه موقف الطلاب العرب مع موقف شباب وطلاب من دول أجنبية في تفاعلاتهم مع قضايا عربية خالصة، باعتبار ما يجري ظُلماً موصوفاً، وإبادة واضحة المعالم، لا يقرها القانون الدولي، وتحرِّمها المعاهدات الإنسانية العالمية.
ويمكن ملاحظة هذه التفاعلات والمواقف من خلال الحراك التضامني مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرِّض لوحشية غير مسبوقة في قطاع غزة والضفة الغربية، والطلاب العرب كما أقرانهم من دول أخرى، انتفضوا في بعض الجامعات الأمريكية والأوروبية، لأن انتهاك حقوق الإنسان من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي فاقت كل تصوّر، والارتكابات المُهينة تجاوزت كل الحدود.
ولا يمكن إضفاء حصرية مطلقة على هذه الوضعية، بل يمكن تسجيل مواقف مشهودة، ظهرت فيها العاطفة القومية عند بعضهم، وغامر عدد منهم بمستقبله التعليمي من أجل قضية قومية مُحقة، وقد استغلّت جهات معادية تحركات قومية وإنسانية متجرِّدة، لدسّ أعلام حزبية بين المتظاهرين، لتشويه صورة التحركات الصادقة، وهذه عادة درجت على اللجوء إليها قوى مؤيدة لإسرائيل في أكثر من مناسبة لتشويه صورة العرب والمسلمين، وإلصاق تهم التطرف والإرهاب بهم، بينما مثل هؤلاء يلقون تشجيعاً من أعداء الأمة على الدوام.
من خلال بعض المشاهدات والأبحاث والمتابعات، يمكن ملاحظة التراجع الواضح عند الشباب العرب في ما يتعلّق بالرؤى القومية العربية الموحّدة، والصراحة الموضوعية تفرض علينا تسمية الأشياء بأسمائها، وبالتالي تأكيد وجود حالة من الضياع عند الشباب، أدت إلى شيء من التشويش الفكري، وإلى زهد واضح بالاهتمام بالعناوين القومية العربية، إذا لم نقُل إلى يأس من الأحوال المتردية التي وصلت إليها بعض الدول العربية، كما من صورة الشلّل التي تظهر على سياق العمل العربي المشترك، بينما يشاهد الشباب العرب شكلاً من أشكال الاستباحة الخارجية تطغى على ساحات عربية أساسية، وتتفاقم في أكثر من دولة عربية حالات البؤس والعوَز والافتقار للحد الأدنى من الحقوق البديهية للإنسان، بينما الحروب والصراعات الداخلية آخذة بالتنامي في بعض الدول، وتسود حالات التعنّت والاستبداد، ويتجاهل المتخاصمون المساعي الحميدة، والجامعة العربية في وضعية تعجز معها عن فرض أي حل.
الثقافة القومية العربية، خصوصاً عند الشباب، ليست بالضرورة تعصّباً أو انغلاقاً على الإطلاق، وهي لا تتعارض مع الانفتاح المطلوب على العالم وعلى مناحي التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي هو ملك للبشرية جميعها، لكن الوقائع التي ما زالت تتحكّم بالسياسات الدولية، تفرض حداً أدنى من التضامن القومي، وهو ما تعمل له القوميات والأمم الأخرى في العالم، ولم تتخلّ عنه الدول الكبرى، وباسم هذا التمايُز يتم تسويق ثقافات وأفكار، هدفها فرض وصايا على شعوب أقل نمواً.
المشاعر الإنسانية تجاه المظلومين من الفلسطينيين وغيرهم، فضيلة لا يمكن إنكارها، لكن استهداف هؤلاء أو استغلالهم، ينطلق من خلفية قومية وجيوسياسية، والتضامن القومي مع قضيتهم واجب عربي، ذلك أن استدراج الإخوة أو استهدافهم منفردين، يتبعه ظلم يلحق بالآخرين، فالمثل العامي يقول: «تأكد هلاك الثور الأبيض عندما سمح بذبح الثور الأسود».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdd8rwaw

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"