الشارقة: جاكاتي الشيخ
لا يمثل الخط العربي مجرد كلمات مكتوبة كما قد يعتقد البعض، بل إن من أهم الخصائص التي يتميز بها، والتي أنتجت من كتابته فناًّ مستقلاً بذاته، قدرتُه على عكس مشاهد الحياة المختلفة، أكثر من غيره من الفنون، نظراً لاعتماده على اللغة وما تحمله من دلالات عميقة، وذلك ما انتبه إليه الخطاطون وسعوا إلى إبرازه في أعمالهم، مثل الخطاط العماني سامي بن زين الغاوي.
كان لاهتمام سامي الغاوي بالرسم دور كبير في امتلاكه لرؤية خطية واضحة، فبعد أن أتقن كتابة أهم أنواع الخط التقليدي، قرر أن يثبت قدرة هذا الفن على التعبير عن كل ما يود الفنان تناوله من مضامين محمولة في النصوص التي يختارها لأعماله، مجسّداً إياها في تكوينات متنوعة، قد تقتصر على الخط في الكثير من الأحيان، وقد تمزجه مع فنون أخرى كالرسم في بعض الأحيان، وهو ما قد يمنح المتلقي متعة التخيل ليصل بذائقته إلى العمق الجمالي للعمل الفني، مثل ما تمثّله اللوحة التي نستعرضها في هذه المعالجة.
تجسيد
اختار الغاوي للوحته نص الآية 10 من سورة «ق»، حيث يقول تعالى:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ}، وكتبها بخط الديواني الجلي، وهي آية تتحدث عن النخل الذي أنبته الله بماء الحياة المبارك الذي نزّله من السماء، كما أنبت به غيره من النباتات التي يعيش الإنسان على ما يحصد منها، حيث جعل النخل باسقاً في طوله الفارع، وصبوراً، ليعيش في أصعب ظروف الطبيعة، مهما قلَّ ماؤها، ويؤتي طَلْعاً متراكباً على بعضه دون أن يختلط، ليجني منه الإنسان التمر، بما له من لذة وفوائد، فخَلْقُ النخلة في تناسق باهر يجمع بين القوة والشدة والحسن والإتقان، دليلٌ على قدرة الله جلّ جلاله، ما جعل الفنان يسعى إلى تجسيد تلك المضامين في عمله الفني هذا.
كما اختار فناننا أن ينفذ لوحته مازجاً بين الرسم والخط، فكان سعفها مرسوماً بشكل متقن، بينما كان جذعها تكويناً بخط الديواني الجلي، وهو الخط الأنسب لمثل هذا التكوين، نظراً لخصائصه المميزة التي تسمح بالحرية في طريقة كتابة حروفه وكلماته، مثل ما تتيحه خطوطه من قابلية للالتواء والاستدارة والتقويس والتداخل، وغيرها من المميزات الملائمة لعمل كهذا، حيث يستطيع الخطاط البارع من خلاله أن يجعل المشاهد أمام شكل حقيقي، كما فعل الغاوي بهذا الجذع، والذي قد لا يدرك غير المنتبه أنه مكون من كلمات وحروف وتشكيل ونقاط، أنجزت بأسلوب المتمكن من قواعد هذا الخط ومقوماته الأساسية.
تأمل
لقد أراد الغاوي أن ينفذ كتابة نصه بطريقة تجعل المتلقي يستوعب المضمون بتدرج سلس، فلأن النص يتحدث عن قوام النخل الباسق وطلعه النضيد، انطلق الخطاط في كتابته من الأسفل نحو الأعلى، ليجسد شموخ النخيل المرتسم في جذوعه، فبدأ بكتابة حرف العطف «و»، وكلمة «النخل» كقاعدة للتكوين الخطي، بطريقة توحي بقوة انغراس النخلة في الأرض ورسوخها، وليسهل على المشاهد المتأمل قراءة النص، ثم انطلق نحو الأعلى في كتابة بقية الكلمات، ليوحي ببسوق النخل، فكتب «باسقات» بألفات طويلة لتأكيد معنى الكلمة، وكتب فوقها «لها» التي رسم ألفها ولامها بما يشير إلى حمل النخلة لطلعها من خلال كتابة كلمة «طلع» وكأنها ترتكز على «لها»، ثم كتب كلمة «نضيد» راسماً كل حرف منها منفرداً، بحيث لا يرتبط بالحرف الآخر إلا بخيط دقيق، ليشير إلى أن ذلك الطلع المنَضّد يتصل ببعضه البعض بقوة تقاوم الجاذبية رغم ارتفاعه وثقله، وقد جعل الكلمة في الأعلى ليشير إلى مكان «الطلع» من النخلة، وليكمل المشاهد رحلة التأمل الجمالي للنص، مدركاً آية من آيات الله الذي خلق فأحسن خلقه وأحكمه.
وقد اختار أن يكتب نصه باللون البني لأنه يرمز إلى الرسوخ والارتباط، وهو ما تمثله النخلة بقوة انغراسها في الأرض ودوام شموخها، كما عكست الخلفية لون الصحراء التي تعتبر موطناً دائماً للنخل رغم قساوة ظروفها، للتأكيد على أن الله خلق النخلة في تلك الظروف الصعبة ليثبت لعباده أنه يبعث الحياة في ما شاء وأينما شاء.
سيرة
ولد الفنان سامي بن زين الغاوي سنة 1971م في مدينة صلالة العمانية، وقد عشق فن الخط العربي منذ نعومة أظافره، حيث بدأ شغفه بالفن من خلال الرسم، وخاصة الرسم الواقعي للطبيعة والوجوه، ومنذ أواخر المرحلة الابتدائية وحتى المرحلة الإعدادية والثانوية، تحوَّل تدريجياً من الرسم إلى تقليد كتابات فن الخط المتوفرة آنذاك في الكتب المدرسية، وبعد المرحلة الثانوية سافر إلى اسطنبول سنة 1992م، حيث التقى بأستاذه الأول في فن الخط الشيخ حسن جلبي وتعلم على يديه أساسيات فن الخط العربي، ثم سافر إليها مرة ثانية سنة 1998م، ليلتقي بأستاذه الثاني محمد أوزجاي الذي أكمل على يديه تعلم الأساسيات وانتقل إلى المرحلة الاحترافية من هذا الفن، كما أنه حاصل على دبلوم في السكرتارية الإدارية والطبية من إنجلترا، وهو الآن عضو في الجمعية العمانية للفنون التشكيلية، وعضو مؤسس للاتحاد العالمي لفن الخط العربي والزخرفة، شارك في العديد من المعارض الخطية داخل سلطنة عمان وخارجها، وحائز على العديد من جوانز المسابقات في المجال.