الشارقة: جاكاتي الشيخ
غالباً ما تسهم الدراسة الشرعية واللغوية للفنان في امتلاكه ناصية الخط العربي بإتقان، وذلك ما حدث مع الفنان السوري عدنان الشيخ عثمان، الذي اهتم بتلك العلوم في سن مبكرة، وحين بدأ تجربته الخطية حاول أن يستفيد من مخزونه المعرفي في تقديم أعمال مميزة.
اشتهر عدنان الشيخ عثمان بتقديمه لأعمال فنية متكاملة، حيث يجتهد في اختيار نصوصه، ثم يشتغل على ابتكار التكوينات الخطية، ويراعي في تحبيره جودة المفردات ومطابقتها للنسب الذهبية المتعارف عليها، كما يراعي صحة ترتيب الحروف والكلمات، مما يسهّل على المشاهد قراءة نصوصه، ويحرص على تجانس الألوان والكتل والفراغ، وهي أمور يصعب الالتزام بها دون أن تؤثر في جمال العمل، ولكنه يلتزم بها في إتقان، نظراً لتمكّنه من جميع أنواع الخطوط، وخاصة خط الثلث الجلي المتراكب الذي نال فيه جائزة «إرسيكا» للتميز، وقد كتب به اللوحة التي نتناولها هنا.
*مضامين
اختار عثمان لهذه اللوحة نص الآية 37 من سورة الإسراء، حيث يقول تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، وهي آية يأمر الله فيها عباده بالتواضع، بدل أن يتخذوا من الكبر نهجاً يسيرون عليه تيهاً وبَطَراً، حيث يظن صاحب هذا الخلق السَّيِّئ أنه أفضل من غيره، فيتعالى على الحق ويتعاظم على البشر، وينبّهه الله بأنه بذلك الفعل لن يستطيع أن يخترق الأرض ولا أن يبلغ طول الجبال، بل سيؤول به ذلك التصرف إلى احتقار خالقه له، واحتقار الناس كذلك، وهي مضامين أراد عثمان تجسيدها في لوحته.
وقد كتب اللوحة بخط الثلث الجلي المتراكب، فأبدع في تنفيذها، حيث ضبط قواعد هذا الأسلوب الخطي وموازينه الصعبة، واجتهد على استغلال مرونته، التي تساعد على براعة تأليف الحروف، ومتانة تركيب الكلمات، مراعياً في دقّته الابتعاد عن القصور الذي قد يشوّه جمال اللوحة، دون أن ينسى الالتزام بترتيب الكلمات، التي وضعها في تسلسلها الطبيعي، وكان تركيبه لها خفيفاً بديعاً، جنَّب اللوحة التعقيد أمام المشاهد، حيث لم يؤثر ذلك في جمالية العمل وتناسق تكوينه، كما تعمّد التقليل من استخدام الزخارف، التي يغلب الإكثار منها في الثلث الجلي، مكتفياً ببعضها مع الحركات والتشكيلات.
*وضوح
لن يجد مشاهد هذه اللوحة الكثير من العناء في قراءتها، رغم الصعوبة المألوفة للأسلوب الذي كتبت به، فيكفيه أن ينطلق من الأسفل، ليتضح له كل شيء فيها، حيث بدأ الخطاط بكتابة حرف العطف «و»، للإشارة إلى أن ما يأتي في الآية أمر ربّاني بدأ في الآيات السابقة لها، ثم كتب اللام ألف «لا» كبيرة، مباعداً بين لامها وألفها للتنبيه إلى النهي الوارد في النص، وكتب «تمش» بشكل واضح يكاد يخلو من التركيب للتأكيد على المعنى السابق، وأتبعها بـ «في»، ثم كتب أعلى ذلك المستوى كلمتي «الأرض مرحا»، محدثاً تناسقاً بصرياً من خلال جعل لام ألف «الأرض» في حضن اللام ألف الأولى، ودوّر حاء «مرحا» مركّباً إياها على «في» ليشير إلى ارتباط الإنسان بهذه الأرض التي خلق من ترابها، ثم كتب في أعلى ذلك المستوى «إنك»، والتي نزل ببدايتها لتفصل بين ألف الأرض ولام ألفها، فيما جعل كافها في المستوى الطبيعي، لتنبيه المشاهد إلى ارتباط المخاطَب بها (الإنسان) بالأرض الواردة في المقطعين، وكتب «لن» فوق إنك متناسقة معها، وكتب كلمتي «تخرق الأرض» بذات الطريقة التي كتب بها المقطع السابق، ليستدعي نفس المعنى، وليؤكد أن الإنسان سيظل على الأرض كما قُدِّر له، لا كما يتصوّر في كِبْرِه، ثم كتب أعلى المستوى السابق واو العطف مركبة على «لن» السابقة، وأتبعها بـ «لن» الثانية التي كتبها فوق الأولى بتناسق تام، لأن ما سيأتي يستحيل على العبد كما سبق، وكتب كلمتي «تبلغ الجبال» بشكل مسترسل عريض يوحي بهيئة الجبال وعظمتها، وكتب فوقها «طولا» مادّاً أجزاءها الطويلة خارج إطار التكوين، ليشير بكل ذلك إلى أن الإنسان مهما بلغ من تعظيم نفسه لن يتجاوز الإطار الذي خلقه الله فيه.
وقد كان لاقتصار الخطاط على اللونين الأسود والبرتقالي دور كبير في تقريب المعنى من المشاهد، فمهما كانت ثقة الإنسان في نفسه وحبه لها، لن يجعله ذلك يتجاوز مستواه البشري الطبيعي، فعليه أن يتواضع ليعيش مع الآخرين في محبة وسلام.
*إضاءة
ولد عدنان الشيخ عثمان سنة 1959م في حمص، وهو من أعلام الخط العربي في سوريا، درس العلوم الشرعية واللغوية، وتعلَّم الخط متأثِّراً بكبار الخطاطين، وعمل أستاذاً في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وألقى العديد من المحاضرات العلمية في المجال في سوريا وعدد من الدول العربية والإسلامية، وله بحوث عن رحلة الخط بين المحاكاة والابتكار، وكتب الكثير من عناوين الكتب لدور النشر، وأنجز مئات اللوحات الخطية، وشارك وفاز في العديد من مسابقات الخط العربي، وخاصة مسابقات مركز اﻷبحاث للتاريخ والثقافة اﻹسلامية (إرسيكا) بتركيا، حيث أحرز في مجموعها 13 جائزة دولية في مختلف أنواع الخط العربي، وهو حالياً محكِّم في عدة مسابقات دولية لفن الخط العربي، في الجزائر والعراق وماليزيا وإيران وسلطنة عمان.