د. علي محمد فخرو
تحدثنا في مقالين سابقين عن مدخلين رئيسيين لتكوين منهجية فكر وعمل متناسقة ومتكاملة من أجل بناء حداثتنا العربية الذاتية.
المدخل الثالث المفصلي يكمن في الانتقال الفعلي والمتوازن إلى نظام ديمقراطي سياسي واقتصادي واجتماعي عادل.
في أوج الحراك القومي العربي في منتصف القرن الماضي، ابتدع البعض شعار تأجيل موضوع الديمقراطية إلى حين الانتهاء من تحقيق الاستقلال الوطني والقومي وبناء نوع من الوحدة العربية والوصول إلى نظام اقتصادي اشتراكي، وحينها دخلت الحركات والأحزاب القومية في هوس الدوران في حلقة الأولويات، وأعطيت مكانة الصدارة لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
ولذلك دخلت العديد من الأقطار العربية الكبرى في حلقة قبول الانقلابات العسكرية المتكررة باسم إعطاء الموضوع الفلسطيني الأهمية الأولى في الحياة السياسية العربية.
لكن الكوارث التي تتالت إبان النصف الثاني من القرن الماضي قادت إلى مراجعة عميقة للفكر القومي العربي، والتي انتهت بطرح المشروع النهضوي العربي بمكوناته الستة، ومنها ضرورة الانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي غير مزيّف بشعارات غامضة، مثل «الجماهيرية» و«الشعبية» أو الحزب القائد أو تطبيقات مقيّدة، مثل ضرورات الأمن التي تحددها أجهزة الاستخبارات وليست الجهات التشريعية أو القضائية الدستورية والقانونية.
من هنا فإن مدخل الديمقراطية يجب أن يكون ضمن المعطيات التالية:
أنها ليست فقط تمثّل ضرورة سياسية ومنعطفاً تاريخياً وجودياً لأمة وشعوب عاشوا عبر القرون الماضية تحت حكم الفرد أو العائلة أو أية فئة متحكمة باسم شتّى المسميات، وإنما هي حقّ عام للشعب وللأمة تؤكده وتفرضه حقوق المواطنة ومسؤولياتها، وهي أفضل الوسائل لبناء علاقة متوازنة فيما بين المواطن وكل أجهزة الدولة، كما أنها أفضل مهيّئٍ لاندماج المواطنين في عملية التنمية المجتمعية الشاملة.
لكن ذلك لا ينبني ولا يتجذّر ويتطوّر إلا في أجواء من الحرية، التي تشمل حرية الرأي والعقيدة والقول والنشر، إضافة إلى تعددية سياسية ومدنية، ونظام تمثيلي نيابي عادل وشفاف ونزيه وممثل لكل مكونات المجتمع، وبشرط أن يكون هناك فصل بين سلطات الحكم وتداول فيما بين حاملي مسؤولياتها، على أن يكون تنظيم كل ذلك بمنطوقات دستورية وقانونية شرعية.
وفي حقيقة الأمر ما عاد الكلام عن ديمقراطية سياسية تمثيلية كلاسيكية يكفي، إذ أثبتت الأزمات المجتمعية الكثيرة في شتّى بقاع العالم، ضرورة أن تصاحب الديمقراطية السياسية ديمقراطية اقتصادية تنطلق من مبادئ العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل لثروات المجتمع المادية والمعنوية.
هذا المطلب أصبح من الضرورات، بعد أن قادت الرأسمالية النيولبرالية العولمية البالغة التوحش إلى أزمات اقتصادية ومالية متكررة، وانتهت إلى زيادات هائلة في ثروات القلة الغنية وإلى مزيد مأساوي في فقر الفقراء ومن ثمّ تراجع مقلق في عدد أفراد الطبقات الوسطى وإلى تراجع في قدراتهم المعيشية كافة، وإلى شبه توقّف للحراك الاجتماعي نحو الأفضل بالنسبة للفرد وللجماعة.
ولقد لخّص ذلك التوجه منذ ثمانينات القرن الماضي القيادي في حزب الاستقلال المغربي، عبدالكريم غلاب، عندما قال: «نحن لا نفرّق بين الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية السياسية في نضالنا»، إذ لا بدّ أن نسير على قدمين وإلا لن نصل إلى تحقيق أهدافنا أبداً.
وهكذا فإن فهماً جديداً للديمقراطية أنهى فهمها الكلاسيكي اللبرالي البرجوازي السابق المليء بالثغرات، والذي أراد الغرب الاستعماري أن يفرضه على دول المنطقة تحت شعار تمدينها.
وفي مجتمع عانت المرأة فيه عبر القرون النظرة التهميشية وعدم المساواة مع الرجل في كل حقوق المواطنة، تعيد الديمقراطية المقترحة إلى المرأة الحقوق المستحقة الإنسانية والشخصية والمجتمعية وتمنع حقوقياً، أي نوع من التمييز ضدها بسبب الجندر الجنسي، وتفتح لها أبواب كل الفرص الحياتية المتساوية مع أخيها الرجل.
وكان مؤملاً أن تقود حراكات ما يسمّى الربيع العربي إلى انتقالات جادة نحو النظام الديمقراطي، لكن ذلك لم يحدث، بل إنه قاد في بعض البلدان إلى مزيد من الانتكاسات الديمقراطية.
ومع ذلك فإن الديمقراطية قد أصبحت جزءاً أساسياً من الفكر السياسي العربي، وبالتالي من أية عملية تحديث عربية ذاتية مستقبلية.
وعلى الشباب أن لا ينخدعوا بمحاولات البعض إرجاع الموضوع الديمقراطي إلى الوراء وتهميشه.
[email protected]
https://tinyurl.com/45sj8c95