د. صلاح الغول*
بنسخته الأولى، التأم منتدى هيلي، الذّي نظمه مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في الفترة من 16-17 سبتمبر الجاري، في منتجع سانت ريجيس بجزيرة السعديات بأبوظبي، تحت شعار «نظام عالمي مضطرب: قراءة في المفاهيم، والتشكيل، وإعادة البناء»، وحضره نخبة من الباحثين والخبراء وصنّاع القرار من اكثر من 25 دولة. وألقى الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، الكلمة الرئيسية في المنتدى، وركزت على معالم السياسة الخارجية الإماراتية الواضحة في ظل مرحلة الانطلاق التي يقودها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله.
على مدى 15 جلسة، منها 3 جلسات رئيسية و12 جلسة حوارية متزامنة، تمت مناقشة التطورات والتغيرات التي سوف تشكل مستقبل العالم في المجالات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والتكنولوجية، والتي تتراوح من إعادة تشكيل الحوكمة العالمية، والحرب والسلام، وتأثير السياسة الأمريكية بعد الانتخابات الرئاسية على النظام العالمي، إلى التغير المناخي والأمن الاقتصادي وعودة الحمائية التجارية وسياسة الممرات الاقتصادية، والتنافس الجيوتكنولوجي الجديد.
ولعل منتدى هيلي، بالإضافة إلى إسهامه في استشراف مستقبل النظام العالمي الجديد قيد التشكل، قدّم مساحة غير رسمية أو باباً خلفياً لتبادل الأفكار بين الدول، مثلما هو الحال في مؤتمر ميونيخ للأمن أو حوار (شانغريلا)، ليُسلط الضوء على دور مراكز الفكر الإماراتية، وعلى رأسها مركز الإمارات للدراسات ومركز الإمارات للسياسات ومركز ترندز للبحوث والاستشارات، في تعزيز القوة الناعمة للدولة.
والواقع أن مراكز الفكر والدراسات أضحت من أهم أدوات القوى الناعمة للدول، ومن أهم محددات قياس هذه القوة الناعمة بحسب المؤشر العالمي للقوى الناعمة الذي تصدره جامعة جنوب كاليفورنيا، كما أنها من أهم الأدوات الفاعلة للتأثير على عملية صنع القرار في كثيرٍ من الدول، وتُشير القوة الناعمة إلى القدرة على تحقيق الأهداف المرجوة والتأثير في مجريات السياسة الدولية، عن طريق جذب الآخرين واستمالتهم، وإقناعهم بوحدة الأهداف.
ويعتمد هذا النمط من القوة على القدرات الدبلوماسية والثقافية والإعلامية التي تمتلكها الدولة، وعدالة أو شرعية السياسات الخارجية التي تتبعها، وجاذبية النموذج (الاقتصادي أو السياسي) الذي تطرحه، وقدرتها على الاندماج الدولي، وصنع صورة دولية إيجابية لذاتها كمثال يحتذى في مجالات التنمية الاقتصادية والتقدم التكنولوجي والعمل الإنساني، ودعم الشرعية الدولية. وتكتسب القوة الناعمة مزيداً من الأهمية في عالم اليوم، ويتصاعد دورها وفعاليتها على حساب أدوات القوة الصلدة في تحقيق الأهداف الخارجية للدول.
وثمة عدة عوامل تُفسر إسهام مراكز البحوث والفكر في القوة الناعمة للدولة، يمكن إبرازها على النحو التالي:
ـ أولاً: تقدم هذه المؤسسات الرأي والتحليل والمشورة لمتخذي القرار، ويتم التشاور مع خبراء مراكز البحوث والفكر بشكل منتظم من جانب مؤسسات صنع القرار.
ـ ثانياً: تشكل مؤسسات الفكر والرأي جسراً بين صانعي السياسات والأوساط الأكاديمية، ويعتبر ممثلوها بمثابة سفراء لبلدانهم، لاسيما عندما يقومون بالتدريس في الجامعات أو يلقون محاضرات كضيوف أو يشاركون في مشاريع بحثية دولية، ومن خلال أداء أفضل ما لديهم في تلك الفعاليات، يشجع ممثلو مؤسسات الفكر والرأي الطلاب والأساتذة والباحثين على القدوم إلى بلدانهم والمشاركة في الندوات والمشاريع البحثية.
ـ ثالثاً: تنظم مؤسسات الفكر والرأي فعاليات يمكن فيها لصانعي القرار اختبار أفكارهم والترويج لها وتبيينها.
ـ رابعاً: تتفوق مؤسسات الفكر والرأي على المؤسسات الرسمية في الاقتراب من دوائر الأعمال والتقنية وأصحاب المصلحة وجماعات الضغط؛ لأنها تتسم بالمرونة وتستجيب للثورة التكنولوجية بطريقة أفضل وأسرع ويمكنها معالجة الأسئلة المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في العلاقات الدولية بشكل أنجع بكثير من المؤسسات التقليدية، وفي هذا الخصوص، نجد أن كثيراً من مراكز البحوث تقوم بعمل تقارير مشتركة بينها وبين مؤسسات الأعمال والتقنية والمؤسسات غير الحكومية الأخرى في مجالاتٍ متنوعة، واضعة في اعتبارها دورها الرئيسي المتمثل في تزويد متخذي القرار في مجال السياسات العامة بأفضل الحلول لمشاكل متعددة ومتشعبة.
ـ خامساً: تقوم مؤسسات الفكر والرأي بالتثقيف، وذلك من خلال التقارير العامة والمؤتمرات والندوات والبودكاست والمدونات وغيرها من الطرق لنشر الأخبار والمعرفة حول العلاقات الدولية، إنهم لا يدرسون للطلاب فحسب، بل يثقفون أيضاً مجموعات واسعة من المواطنين داخل وخارج البلدان التي توجد بها مقراتهم، ففي زمن الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن لمؤسسات الفكر والرأي أن تكون حاضرة بآرائها في كل مكان وفي كل وقت.
كما يمكن لمراكز الفكر والبحوث التأثير على البلدان الأخرى وجذب مواطنيها، وتعزيز العلاقات الودية بين الدول بشكل ثنائي من خلال توفير «منتدى للمسؤولين للتواصل مع بعضهم البعض ومناقشة القضايا بشكل مفتوح»، وذلك من خلال توفير «مساحة آمنة» للحوار. كما يمكنها تقديم المشورة للدول حول كيفية تحسين علاقاتها، علاوة على ذلك، يمكن أن تنسج مراكز الفكر علاقات وروابط بينها وبين المؤسسات الدولية مثل «اليونسكو» على سبيل المثال، التي تسعى من جانبها لتعزيز سلطتها كمؤسسة ذات طبيعة دولية، لكنها مفتوحة لأصوات المجتمع المدني ومن بينها مراكز البحوث والفكر التي يتوجب عليها في المقابل أن تتمتع بصفة الاستقلالية والعمل بموضوعية وحيادية والقابلية لنشر قيم المنظمة الدولية.
والخلاصة أنّ منتدى هيلي الأول انتظم في ظل لحظة فارقة يعيشها النظام العالمي، كما أكد سلطان محمد النعيمي، مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ويمثل إسهاماً إماراتياً ناعماً في الحوار عن النظام الجديد قيد التشكل، وإبرازاً لأحد معالم القوة الناعمة الإماراتية، وهي منطقة هيلي في العين.
[email protected]
*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية