ماذا لو طبّقنا على الحضارات أشياء من خارج ميادين دراستها المألوفة؟ إذا كان الدماغ متقوقعاً في طرائق تفكيره التقليدية، فإنه سيرى المسألة هرطقةً أو تهريجاً. سننفلت من مغناطيس التاريخ والإناسة وسائر البحوث المعهودة في دراسة الحضارات، ونُجري تجارب ذهنيّةً مستمدةً من علم الأحياء، الوراثة تحديداً، ومن المعلوماتية.
الغاية هي بكل بساطة: الملايين الأربعمئة الذين هم الآن على الخريطة العربية، من الماء إلى الماء، لهم خلفية حضارية تاريخية ثقافية مجموع عهودها ثلاثون ألف سنة أو يزيد. السؤال: هل يُعقل أن تكون صفحات هذه الموسوعة الحضارية، قد تناثرت أوراقها: «يا ذكر مجدٍ غابرِ.. قد عافك الشجرْ.. تناثري»؟ هل ينبغي للحضارات التي سادت، أن تكون قد بادت، وصار هباءً كل ما شادت، كأنها ما رادت ولا قادت، ولا بكل إبداع جادت؟ ترى لماذا شعوبُها الوريثةُ عن صنع الحضارة حادت؟
عجباً وهيهات وواحسرتا؟ لا يمرّ شهر أو فصل إلّا والمجلات والمواقع العلمية والتاريخية الغربية، تفاجئنا بكشف أسرار جديدة من عجائب أهرام مصر، ومكنونات الألواح الطينية في وادي الرافدين. كيف لم يتهيّب ذلك الشاب العنيد حنبعل، ابن السابعة والعشرين، صعود جبال الألب، وقاد حملةً بالأفيال، في ثلوج الشتاء، على الإمبراطورية الرومانية؟ هل تتصوّر أن الأمّة المتكئة على أرائك حضارات عريقة مجموع ماضيها ثلاثمئة قرن، تستطيع اليوم أو غداً، أن تعثر على مختصر موجز أو خلاصة ولو مختزلة، لمناهج تلك العصور الغابرة؟ ماذا كانوا يعلّمون أطفالهم؟ على أيّ تربية كانوا ينشِّئونهم، حتى يقدر الفرد أحياناً على تغيير مجرى التاريخ؟ كان المراهق يقف أمام المرآة، ولو مرآة صفحة الماء مثل نرسيس، مخاطباً نفسه: «أتحسب أنك جِرمٌ صغيرٌ.. وفيك انطوى العالم الأكبرُ؟». هل تبخّرت المورّثات، وتلاشى الحمض النووي؟
أمّا ما خطر للقلم استلهامه من علم الأحياء وراثيّاً، فهو: هل من المحال انتقال تلك العزائم الفولاذية، في تشييد الحضارات، عبر جينات الأجيال؟ ذلك ممكن إذا عقد العرب العزم على التخلص من المثبطات في مناهجهم، حتى يرضع الطفل حليب الحضارات، فيرى حق القوة هباءً أمام قوة الحق. أمّا عن المعلوماتية، فالاعتقاد راسخ أن الحضارات عندما تتوارى، تترك في الأمّة ما يشبه الذاكرة المخبئية (كاش) في معالج البيانات الحاسوبي، التي تختزل الملف العملاق في رمز ضئيل، فإذا استدعت الإرادة الجمعية روح حضاراتها القديمة لبّت وهبّت قائلة لكل محال: تبّت.
لزوم ما يلزم: النتيجة التربويّة: إذا لم تنتقل الإرادة الحضارية عبر المورّثات، فلتتفضّل المناهج بنقلها. توكّلوا.
[email protected]
https://tinyurl.com/3p8fhxu7