يحيى زكي
بات عامل المناخ من أهم العوامل التي يأخذها المؤرخون في الاعتبار عند النظر في الوقائع ومحاولة تحليلها، بل أصبحت هناك مدرسة لتفسير التاريخ وفق التحولات المناخية، تضم بين جنباتها من يرى أن الحضارة الإنسانية نفسها نشأت نتيجة هذه التحولات، ومن يرجع أسباب الهجرات والحروب التاريخية الكبرى إلى تغير المناخ، ومن يرى أن المناخ من أهم عناصر تكوين مزاج وطبيعة شخصية الأفراد وسمات الشعوب، وهو ما يذكرنا بابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
لعل من أبرز الحوادث التاريخية التي نتجت عن تغير المناخ ما يعرف ب «مجاعة البطاطا الأيرلندية»، التي وقعت خلال الفترة من 1845 إلى 1849، وراح ضحيتها مليون شخص، ونتج عنها أكبر هجرة من أيرلندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عندما انخفضت درجات الحرارة فجأة في الصيف وأدى هطلان الأمطار المستمر إلى تدمير محصول البطاطا، ولم يجد الفقراء ما يأكلوه، فانتشر، كما هو المعتاد في المجاعات، تناول الحيوانات الأليفة، بل وصُنع الخبز من نشارة الخشب. ولم يتوقف الأمر عند المجاعة وحسب بل صاحبها وباء الطاعون، وعلى الجهة المقابلة كان هناك من استفاد من المجاعة، وكوّن ثروات ضخمة، على حساب الفقراء، وهو ما صوره الأديب الأيرلندي جيمس جويس في كتابه «الأموات».
الصورة السابقة تكررت حرفياً مع معظم المجاعات التاريخية، أولاً هناك تغير مناخي يصاحبه تأثير شديد السلبية والقسوة على الزراعة، ونتيجة للجوع وتراجع الرعاية الصحية ينتشر الوباء أيضاً، ويكون الضحية هم الفقراء بالدرجة الأولى، وكتاب «إغاثة الأمة بكشف الغمة» للمقريزي الذي يتتبع أبرز المجاعات التي وقعت في مصر الإسلامية حتى القرن الثامن الهجري، مثال دال على العلاقة بين تغير المناخ من جهة، والمجاعة وتأثيراتها المجتمعية من ناحية أخرى.
لا تقتصر أهمية المناخ على أنه عامل تفسيري للتاريخ، ولكنه أيضاً أحد أهم المآخذ التي يضعها الكثيرون في الاعتبار عندما ينقدون النظام الرأسمالي، فذلك النظام الذي مر بمفاصل عدة اعترضته عقبات كثيرة كادت أن تقضي عليه، استطاع أن ينجو منها، حتى وصفه البعض بالنظام الذي يجدد نفسه باستمرار، لكنه حتى الآن لم يتجاوز عقبة المناخ التي تبدو حجراً عثرة يقف أمامه بقوة وثبات، خاصة أن نقاد الرأسمالية يتهمونها دائماً بأنها السبب المباشر في ارتفاع درجات الحرارة والتي نتج عنها كل التخوفات التي يطرحها البشر الآن حول مستقبل يعصف به المناخ.
إن الكتابات التي تبدو الآن خيالية عن مستقبل ترتفع فيه درجات الحرارة مزعجة، وكثيراً ما تكون كابوسية، فهناك اختفاء لأماكن كاملة، وهجرات ضخمة نحو البلدان الغنية، وعنف ستمارسه بعض هذه البلدان تجاه أولئك النازحين، والأكثر رعباً أن هناك من يتوقع احتمالات أسوأ ويتحدث عن ضرورة أن يعتاد البشر على الحياة في مدن تطفو على الماء، وسيصاحب كل هذا أيضاً مجاعات وأوبئة، وكأن التاريخ يكرر نفسه كالمعتاد، فهل يستطيع النظام الرأسمالي تجنب هذه السيناريوهات وتجديد نفسه وفق حلول مختلفة ومغايرة تضع مصالح أغلبية البشر في مقدمة أولوياتها؟
https://tinyurl.com/4ftpwrnm