أحداث اقتصادية متسارعة

21:27 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

لم تعد أخباراً بل هي أحداثٌ وتطورات وتحولات اقتصادية متسارعة، تحفر عميقاً في مستقبل شكل وجوهر عناصر العلاقات الاقتصادية الدولية، فتضيف إليها ما هو مستحدَث جديد من مواد تداولها المادي السلعي والتكنولوجي. في ألمانيا، محرك الصناعة في أوروبا، فاجأ الرئيس التنفيذي لعملاق صناعة السيارات الألمانية «فولكس فاغن»، أوليفر بلوم، أوساط المال والأعمال في أوروبا، بتصريح محبط ومقلق، إذ قال إن «صناعة السيارات الأوروبية في وضع صعب جداً، وإن البيئة الاقتصادية التي تعمل فيها، صارت قاسية، وهذا ما جعل صناعة السيارات الأوروبية في وضع متأخر قبالة منافسيها، وإن ألمانيا بالذات أضحت في مؤخرة الركب» (طبعاً هو يقصد صناعة السيارات الصينية، لاسيما السيارات الكهربائية التي تفوقت إلى جانب «تيسلا» على منافساتها الأوروبية).
الاتحاد الأوروبي الذي وجد نفسه في وضع اقتصادي مستجد وغير معهود، عهد إلى رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراجي، دراسة وتحليل أسباب انهيار اقتصاد بلدانه. فجاء لهم بنتائج مخيبة مفادها أن أساس المشاكل الاقتصادية في أوروبا يكمن في تكلفة الطاقة الباهظة التي باتت تتحملها الصناعات الأوروبية. فالكهرباء أغلى بنسبة 158% من الولايات المتحدة، والغاز الطبيعي أغلى بنسبة 345%، وإن المشاكل الاقتصادية الحالية في أوروبا تشكل «تحدياً وجودياً» للاتحاد الأوروبي. لكن دراغي يخشى أن يصارح قيادات الاتحاد الأوروبي بأن سبب تفاقم هذه المشاكل هو «التدمير الشامل» لعلاقاته الاقتصادية، لاسيما في مجال الطاقة، مع روسيا، عبر حزم العقوبات المتوالية منذ الحرب الروسية الأوكرانية مطلع 2022.
كما أن توصيته للتغلب على هذا المأزق من خلال تدبير كتلة استثمارية إضافية سنوية تتراوح ما بين 750 و800 مليار يورو، تعتبر حساسة جداً لأحزاب حاكمة تتآكل شعبيتها قبالة أحزاب أقصى اليمين الصاعدة على أخطاء هذه الأحزاب. وفي حين تلقت الصناعة الألمانية، قلب الاقتصاد الأوروبي، ضربة موجعة، كان الاقتصاد الروسي يجني ثروة طائلة من بيع مصادر الطاقة بأسعار أفضل من الأسعار التفضيلية التي كانت تدفعها أوروبا مقابل الغاز والنفط الروسيين. وكل «الفضل» في ذلك يُنسب للعقوبات الأوروبية على روسيا. الغريب أن يكلف الاتحاد الأوروبي أحد قادته السابقين لدراسة تكلفة الأثر المضاعَف لخسارة أوروبا موارد الطاقة الروسية الرخيصة، مع أن الأمر لا يحتاج إلى خبير ضليع لمعرفة ذلك.
نفس السيناريو يتكرر في علاقة الشحن والمجابهة التي باتت تطبع علاقات أمريكا مع الصين. وفي حين تحضر مصادر الطاقة في نموذج المجابهة الأوروبية الروسية، فإن التقنية الدقيقة، لاسيما تكنولوجيا أشباه الموصلات «Semiconductors» هي الحاضرة في الشجار الناشب بين واشنطن وبكين. في عام 2014، نشرت مجلة «هارفارد بزنس ريفيو» (تصدر 6 أعداد في السنة)، مقالاً لثلاثة من كتابها عنونوه ب«لماذا لا تستطيع الصين الابتكار؟»، على أساس أن الصين، كما زعموا، هي «أرض للمتعلمين التلقينيين الملتزمين بالقواعد أو الذين لا يستطيعون الإبداع». اليوم، نحن في عام 2024، أي بعد 10 سنوات فقط من نشر ذلك المقال، باتت الصين تتخطى الولايات المتحدة وتهيمن على 90% من مجالات الابتكارات التقنية، فقط لتوضيح مدى سرعة تحرك الأمور في العالم. ولأن من الاستحالة بمكان ملاحقة التحولات التكنولوجية المتسارعة في الصين، فقد أصبح الحل الوحيد للولايات المتحدة، هو الاستحواذ على ما لدى «الحلفاء» من تقنيات متقدمة، كما حصل مع شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات (Taiwan Semiconductor Manufacturing Company)، أكبر شركة لصناعة الرقائق في العالم، ومع شركة «ASML» الهولندية التي تعد حالياً الشركة الوحيدة في العالم المصنعة لآلات الطباعة فوق البنفسجية القصوى والتي تنتج أكثر الرقائق تقدماً، حيث تتعرض باستمرار للترهيب والتهديد من قبل الولايات المتحدة لإرغامها على إلغاء صفقات بيع منتجاتها للصين. في بداية هذا العام (2024)، جاء موظف برتبة مستشار لدى البيت الأبيض إلى هولندا واجتمع مع حكومتها التي أعلنت على الفور حظر صادرات شركة ASML من آلات الطباعة الحجرية ذات الأشعة فوق البنفسجية العميقة إلى الصين. حتى أنه تم في اللحظة الأخيرة وقف شحن ثلاث آلات تبلغ قيمة كل منها عشرات الملايين من الدولارات. لكن تبين أن هذا لم يكن كافياً لإرضاء واشنطن. فقد أرسلت الحكومة الأمريكية اثنين من مندوبيها ليقولا صراحةً للحكومة الهولندية إنه من الآن فصاعداً ليس مسموحاً لشركة ASML صيانة أجهزة الأشعة فوق البنفسجية العميقة أو عالية الطاقة «Extreme ultraviolet radiation – DUV» (تستخدم للحصول على صور عالية الدقة للهالة الشمسية في نطاق الأشعة فوق البنفسجية، وفي صناعة أشباه الموصلات لتصنيع الدوائر المتكاملة) التي باعتها بالفعل إلى الصين.
ما الذي تعنيه هذه الأحداث الاقتصادية العالمية المتسارعة بالنسبة لنا في العالم العربي؟ هذا ما سنحاول الإضاءة عليه في قادم الأيام.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5ykbn9s8

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"