الحسين الزاوي
تعود الأسئلة المتعلقة بالعنصرية والتمييز العرقي وكل أشكال رفض الاختلاف القائم على أسس ثقافية ودينية، إلى الواجهة مع تزايد العنف والقتل ضد المدنيين في مناطق النزاع لاسيما في إفريقيا والشرق الأوسط.
لذلك فقد حاولت العديد من المنظمات الدولية الحقوقية أن تضع هدف محاربة العنصرية والتمييز في مقدمة أهدافها، ولكنها واجهت ولا تزال تواجه مقاومة واضحة من طرف الكيانات والأوساط الفاعلة في المشهد العالمي، وبخاصة أن النظام الدولي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية استند على القوتين العسكرية والاقتصادية للدول، وليس على منظومة القيم وحقوق الإنسان والمساواة بين البشر، وقد أدت ازدواجية المعايير السائدة في العلاقات الدولية إلى تشجيع الممارسات العنصرية والسكوت عن مشاهد الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية كما يحدث الآن في غزة.
يُعرّف برتراند بادي العنصرية بقوله، إنها تكمن في سيادة سلوك قائم على الكراهية وعلى رفض واحتقار أشخاص يُفترض أن لديهم خصائص طبيعية مختلفة على مستوى المظهر العام، مثل لون البشرة وشكل الشعر، والذين يتم التعامل معهم على أنهم يشكّلون عرقاً مختلفاً يُنظر إليه على أنه أدنى درجة.
وتدّعي العنصرية تقديم تنظير علمي حول وجود أعراق يتم التعامل معها على أنها أعراق غير متساوية مع العرق الأعلى. ويجري تصوّر هذه الأعراق على أنها أجناس حيوانية خاضعة لشكل من أشكال التراتبية التي تؤدي سماتها العامة إلى افتراض تميّزها بخصائص أخلاقية وثقافية مختلفة تتحكم في أفعال كل فرد ينتمي إلى عرق من تلك الأعراق الدنيا.
وسوف تظهر هذه المقاربة البيولوجية للآخر، بداية من القرن السابع عشر من خلال التاريخ الطبيعي لبوفون، الذي أعاد النظر في الطابع الكوني للكائن الإنساني، وسيتواصل هذا التصور في الانتشار خلال القرن التاسع عشر، خاصة في كتابات غوبينو الذي سيؤيّد الفصل الأبدي بين الأعراق والتفوق الكبير للعرق الأبيض، وهو ذات الموقف الذي سيدافع عنه لاحقاً أرنست رينان.
ويضيف بادي أن هذه التصورات هي التي قادت لاحقاً إلى بلورة مواقف هتلر بشأن العرق، وهي المواقف التي تعود بشكل من الأشكال إلى المقاربة التي سبق أن دافع عنها الفيلسوف الألماني هردر، التي تعتمد على ما يمكن اعتباره نوعاً من النسبية، حيث كان هردر يفضّل التمسك بالاختلافات الثقافية بالمعنى الذي يجعل النزعة العرقية تؤسّس أيضاً لصلة وثيقة بين العرق البيولوجي وبين الثقافة الخاصة، ما يؤدي إما إلى تأكيد الفكرة التي تؤمن بتراتبية الأعراق الحاملة لهذه الثقافات، وإما إلى الاعتقاد أن كل ثقافة تكون محافظة على مشروعيتها عندما تبقى منغلقة في سياق منطقها الخاص، ورافضة لكل أشكال التلاقح والامتزاج، وفق أسلوب يؤدي لأن تتحوّل كل ثقافة وكل عرق إلى أمة منغلقة عن الأمم الأخرى، ويفضي هذا الانغلاق الثقافي القائم على النزعة النسبية إلى شكل آخر من العنصرية التي تختلف عن العنصرية التي تدّعي الاستناد على أسس علمية في تصنيف الأعراق.
ويمكن القول، إن هذه النزعات العنصرية التي انطلقت من أوروبا في البداية وخفتَ صوتها بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تطل برأسها مرة أخرى انطلاقاً من أوروبا والدول الغربية في سياق حركات شعبوية تجاهر برفضها للآخر المختلف ثقافياً وعرقياً، ويلاحظ المراقبون أن العديد من الدول التي تعلن دعمها للمنظمات المناهضة للعنصرية، تقوم بذلك اعتقاداً منها أن العنصرية «هي فقط ما يوجد عند الآخرين»، وكأن العنصرية ارتبطت وستظل مرتبطة بنظام جنوب إفريقيا الذي انهار بفضل كفاح نلسون مانديلا ورفقائه، ومن ثم فإن أغلبية الدول الغربية لا تُخضع سياستها الداخلية للنقد لتحديد أوجه النقص في التشريعات المناهضة للعنصرية، وبخاصة أن دولاً مثل الولايات المتحدة، لا تعارض قيام حكام بعض الولايات بممارسة التمييز على أساس العرق، على غرار ما يحدث في المؤسسات الأمنية، مثل الشرطة التي تقوم بممارسات غير إنسانية في تعاملها مع السود.
وعلاوة على ذلك فإن المؤسسات الدولية تمارس في الكثير من الحالات أشكالاً متعددة من التمييز، مثل محكمة الجنايات الدولية التي طالما أصدرت قرارات تدين مسؤولين ورؤساء في إفريقيا لكنها تجد صعوبة بالغة في إثبات تهمة الإبادة الجماعية ضد المسؤولين الإسرائيليين، كما أن منظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة وعلى الرغم من انفتاحها على ثقافات الدول الإفريقية والآسيوية فإنها تظل مرتبطة في مرجعياتها بالثقافة الأوروبية، وتجد محكمة حقوق الإنسان الأوروبية صعوبة بالغة في إلزام الدول الأوروبية باحترام قراراتها المتعلقة بمحاربة التمييز ضد الأجانب في دول الاتحاد الأوروبي.
ويمكن القول في هذه العجالة، إنه وعلى الرغم من التطور الذي حققته الإنسانية خلال العقود الماضية بشأن محاربة العنصرية، إلا أن التمييز على أساس العرق مازال يمثل ركناً أساسياً في العلاقات الدولية، وهناك إرث تاريخي من التمييز الثقافي والعرقي والديني يصعب تجاوزه في العلاقات بين الدول، وهو الذي يفسّر إلى حد كبير حدّة المواجهات التي تحدث الآن في العالم، سواء تعلق الأمر بالحرب في أوكرانيا أو بالجرائم المرتكبة في فلسطين المحتلة.
[email protected]
https://tinyurl.com/59vh4m7h