أحمد مصطفى
تجاهلت كل التحليلات والتعليقات ووسائل الإنشاء الخطابي ولغو الحديث، حادثة تفجير إسرائيل وسائل اتصال إلكترونية بأيدي آلاف اللبنانيين، وهي نقطة أساسية في غاية الأهمية. فبعيداً عن الموقف من أطراف الصراع في المنطقة، والذي يحكم في النهاية زاوية النظر لذلك الحدث غير المسبوق في حجمه ومداه وتأثيره في المستقبل، يتجاوز ما حدث مسألة «تفخيخ» عبوة بهاتف محمول أو استهداف شخص أو مكان بتفجير يتم التحكم فيه عن بعد إلكترونياً.
ما حدث «هجوم إلكتروني شامل» Mass Electronic Attack لا يميز بين عسكري ومدني ولا بين أشخاص أو جماعات أو مناطق جغرافية. يقترب ذلك من التعريف التقني لمصطلح الإرهاب، ويمكن دون مبالغة وصفه بالإرهاب الإلكتروني. لا يهم هنا أن تقوم به «دولة» أو جماعة إرهابية متطرفة أو عصابة أو حتى شخص موتور مولع بالاختراق الإلكتروني وارتكاب جرائم رقمية.
ربما كسبت إسرائيل دعاية وسط القوى الغربية المؤيدة والداعمة لها وبين القوى المناوئة لإيران والجماعات الموالية لها في المنطقة من «حزب الله» إلى الحوثيين، لكن لا يقلل من خطورة ما جرى ليس فقط في سياق الصراعات في منطقتنا بل في العالم أجمع، وبما يمس كل مستخدم لجهاز إلكتروني يعمل ببطارية في يده أو جيبه أو حقيبته أو سيارته أو منزله أو مكتبه.
صحيح أن الابتكارات الإلكترونية، مثلها مثل أغلب مبتكرات البشرية لتطوير سبل حياتها، لها إيجابياتها وسلبياتها. من أحدث الأمثلة على ذلك الطائرات من دون طيار (الدرون) أو المسيّرات. فقد كان ابتكارها مصدر شعور إيجابي باستخدامها في التصوير الأشمل والأوضح حيثما لا تستطيع الكاميرات العادية القيام بذلك. ثم إمكانية أن تستخدم في التوصيل الطارئ للمناطق النائية وصعبة الوصول إليها بما يمكن أن ينقذ حياة شخص أو يساعد معزولاً.
وانتهى بها الأمر الآن أن تتحول إلى أداة قتل وتدمير غير مسبوقة قد تتجاوز في استخداماتها الحربية أعتى الأسلحة التقليدية.
لا يعني ذلك بالطبع أن يتوقف البشر عن الابتكار لأن المبتكرات لها جوانب سلبية، ولا يعني أن الناس سيتوقفون عن استخدام منتجات التكنولوجيا لأن لها مخاطر. في الوقت نفسه، ومع دخول بطاريات الليثيوم والرقائق الإلكترونية الدقيقة في كل شيء تقريباً الآن يصعب تصور أن الناس حول العالم سيتعاملون معها بالطريقة نفسها كما من قبل الهجوم الإلكتروني على لبنان. من الهواتف الذكية إلى السيارات الكهربائية وحتى الساعات الرقمية الذكية كلها يمكن تفجيرها عن بعد.
لم تغب قط مخاطر الإرهاب التكنولوجي عن الجميع حول العالم، لكن الوقاية والحماية طالما تركزت على سد الطريق أمام جماعات مارقة أو متطرفة إرهابية أو عصابات جريمة أو ما شابه. لكن ما حدث مع لبنان نقل الخطر إلى مستوى آخر ينعدم معه الأمان تقريباً مهما كانت سبل الحماية والوقاية أو طرق الطمأنة.
يعتمد الاستخدام الآمن للمنتجات التكنولوجية على «الثقة» بسلامتها، والثقة بمنتجيها والثقة بمن يملكون القدرات التكنولوجية على الاختراق، والثقة بالسلطات التي تشرع وتنفذ القوانين والقواعد. تلك الثقة تدهورت بشدة بعد الهجوم على لبنان، ليس فقط بالمنتجين أو سلطات القانون، وإنما بالأعراف والتقاليد الحاكمة لعلاقات البشر ضمن حقوقهم الأساسية المضمنة في المواثيق الدولية. من قبل، لم ينتهك ذلك سوى جماعات إرهابية وعصابات جريمة منظمة، أما الآن فلا حدود للاختراق والانتهاك، وبالتالي من المنطقي أن تتدهور الثقة.
نظرياً، يمكن لأي شخص محترف في الاختراق الإلكتروني أن يقرصن نظام الدفاع الجوي لبلد بالكامل ويعطله. لكن الدول تتحسب لذلك بمستويات معقدة من الحماية والمقاومة الإلكترونية. مع ذلك يطور القراصنة أساليبهم باستمرار لتجاوز جدران الحماية تلك. ولا شك أن دخول «دول» مجال تطوير برامج اختراق جدر الحماية مهما كانت، يزيد من المخاطر بشكل هائل.
لن يستغرب المرء أن يحاكي كثير من الإرهابيين وعصابات المجرمين والقراصنة المحترفين ما فعلته إسرائيل بأجهزة الاتصال وغيرها من الإلكترونيات لدى آلاف اللبنانيين. وليس هناك ما يضمن استمرار تلك الثقة بأن مخاطر التكنولوجيا تبقى قليلة طالما أن قدرة انتهاكها هي في «أيدٍ عاقلة أمينة».
ثم إن ما يزيد من مخاطر الإرهاب الإلكتروني بعد الهجوم على لبنان هو أن تلك البرامج للاختراق والتفخيخ والتفجير يمكن أن تتسرب، بالضبط كما يقال عن احتمال تسرب فيروس «كوفيد-19» من معمل أبحاث الفيروسات في الصين، حيث كانت هناك برامج أمريكية - فرنسية - صينية مشتركة لتطوير قترة شديدة القوة وفتاكة وسريعة الانتشار أكثر من فيروس إنفلونزا الطيور.
ربما لم تفق البشرية بعد من صدمة وباء كورونا، لكنها تناست بسرعة مخاطر الإرهاب البيولوجي الذي يمكن أن يؤدي إلى ما هو أسوأ من ذلك الوباء. وأتصور أن مخاوف الإرهاب الإلكتروني التي أثارها الهجوم على لبنان بتفجير وسائل اتصالات تكنولوجية ستذهب بسرعة أيضاً. لكن على الدول والسلطات حول العالم ألا تترك هذا الأمر يمر من دون التفكير بسرعة وبجدية في سبل الحد من احتمالات خطر استخدام التكنولوجيا باعتبارها «أسلحة دمار شامل» و«عقاباً جماعياً». ولن تكفي هنا التشريعات والقوانين، وإنما الأهم محاولة بناء الثقة.
[email protected]
https://tinyurl.com/3vuhsvuu