د. محمد الصياد*
العالم الذي كنا نعرفه إلى ما قبل سنتين ونيف، والذي كان إيقاع حركته مضبوطاً على وقع حركة تزاحم الدول على جني حصاد حصة موقعها الرتيب في النظام الدولي لتقسيم العمل وفقاً لميزاتها النسبية والأخرى المطلقة في أسواق تبادل السلع والخدمات العالمية. كما أن العلاقات الاقتصادية بين الدول لم يعد مرجعها القانون الدولي ومؤسساته الناظمة. منظمة التجارة العالمية، لم تعد تعمل كما في السابق بعد أن أدارت الولايات المتحدة ظهرها للمنظمة التي كانت من كبار مؤسسيها في يناير/كانون الثاني 1995. فقد دخل نظام تسوية المنازعات «Dispute settlement system» في منظمة التجارة العالمية في حالة من الغموض، منذ أن قتلت إدارة ترامب هيئة الاستئناف «Appellate Body» بمنعها تعيين أعضاء جدد ليحلوا محل المتقاعدين. لم تتراجع إدارة بايدن عن تلك الخطوة، بل إنها زادت عليها بالدعوة لإعادة النظر في مستقبل مراجعة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية كجزء من محادثات أوسع نطاقاً حول إصلاح تسوية المنازعات، أخذاً بعين الاعتبار ما تسميه واشنطن «أمنها القومي». وبدون هيئة استئناف، فإن مستقبل نظام منظمة التجارة العالمية القائم على القواعد أصبح قاتماً.
الآن لا أحد في أوروبا وأمريكا يتحدث عن استئناف جولات مفاوضات تحرير التجارة العالمية، ولا عن اجتماعات المستوى الرفيع للمنظمة.
فقد استُبدلت آلية التفاوض التجاري المتعدد الأطراف الذي تمثل منظمة التجارة العالمية مظلته الجامعة، وكذلك الحال بالنسبة للنظام النقدي العالمي الذي يمثل الدولار الأمريكي غير المُغطّى، قاعدته الهشة، وجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت Society for Worldwide Interbank Financial Telecommunications – SWIFT)، بنظام العقوبات الاقتصادية الشاملة لكل مواضيع العلاقات الاقتصادية الدولية: التجارة في السلع والخدمات، العمليات البنكية والمالية، الاستثمار بكافة أنواعه المباشر وغير المباشر، نقل التكنولوجيا، حركة الأشخاص الطبيعيين عبر الحدود (أي حرية انتقال العمالة الماهرة وغير الماهرة). فكان أن تكهربت التجارة عبر الحدود وسلاسلها التوريدية، وحلت الريبة والشكوك محل الثقة في العمليات النقدية العابرة للحدود، ودبت الخلاقات من جديد، وبصورة مقلقة هذه المرة، بين أصحاب الأجندات المناخية والوسائط التي من المفترض أن تُسهم في تحقيق التوافق العالمي على خفض الانبعاثات، مثل السيارات الكهربائية التي يجري تسييس تجارتها على نطاق واسع.
وإذا كانت الاتفاقيات الدولية المتعددة الأطراف المبرمة، التي تغطي مجالات التجارة والمال والأعمال وحقوق الملكية ونقل التكنولوجيا وحركة الأشخاص الطبيعيين عبر الحدود، قد أمنت للعالم أجواءً من الثقة والانسيابية والرخاء، فإن العقوبات الاقتصادية، قد خلقت للعلاقات الاقتصادية الدولية، بيئة طاردة لسلاسة حركة السلع ورأس المال والأفراد. مع أن التاريخ أثبت أن العقوبات التي تفرضها أمريكا على كوبا لأكثر من ستين عاماً، قد أضرت بالبلاد، لكنها لم تحقق أياً من الأهداف الأمريكية.
كما نجت فيتنام من سنوات من القصف الأمريكي وعقود من العقوبات الأمريكية لتبرز كاقتصاد آسيوي قوي وصاعد. وإذا كانت العقوبات الغربية الساحقة ضد كوريا الشمالية قد تسبّبت في بؤس سكان البلاد، فإنها لم تمنع كوريا الشمالية من التحول إلى قوة نووية. كما تعرّضت إيران وروسيا والصين وقائمة متزايدة من البلدان لمجموعة هائلة من العقوبات، وكلها فشلت في تحقيق أهدافها اللهم إلا تسبّبها في الانحسار البطيء للدعم الذي تحظى به أمريكا في العالم.
حتى النظام النقدي العالمي الذي كان الدولار محور كافة عملياته ووظائفه (قياس القيمة، التداول، الدفع، الاكتناز)، بدأ يتغير رويداً رويداً بعد طوفان العقوبات الاقتصادية الأمريكية الأوروبية المستمر ضد روسيا منذ مطلع 2022 على خلفية الصراع في أوكرانيا، وبدأت بعض الدول بصورة ثنائية الأطراف «Bilateral»، ومتعدية الأطراف «Plurilateral» (اتفاقات بين أكثر من بلدين، ولكن بعدد محدود من الدول، وإلا أصبحت اتفاقات متعددة الأطراف «Multilateral»)، استخدام عملاتها الوطنية في تسوية مبادلاتها التجارية.
ما الذي يعنيه لنا في عالمنا العربي كل هذا التداعي السريع في الأحداث الاقتصادية العالمية المتواترة على وقع حبل الجيوبوليتيكا المشدود؟ معناه أنه يتعيّن علينا أن نكون يقظين وحذرين ومتريثين إزاء كل خطوة نخطوها في هذا الاتجاه أو ذاك، وسط أمواج البحر العاتية للعلاقات الاقتصادية الدولية التي باتت أسيرة بشكل شبه كلي للأحداث السياسية العالمية العاصفة. في الوقت الذي يتوجّب علينا مواكبة هذه التطورات والسير بحذر في مساراتها (كما حصل في مسعى عدد مهم من الدول العربية للانضمام إلى بريكس، وفوز حتى الآن 3 دول عربية رئيسية هي السعودية والإمارات ومصر، دفعة واحدة بعضوية هذه المنظمة الاقتصادية العالمية الصاعدة، وكذلك الحال بالنسبة لانضمام بعض الدول العربية لمنظمة شنغهاي للتعاون)، إلا أنه يتعين علينا أن نضع في اعتبارنا دوماً، ونحن نتحرك في المسار المتوتر للعلاقات الاقتصادية الدولية، أن النظام الاقتصادي العالمي ومؤسساته الناظمة، ما زالا قائمين ويعملان بنفس الوتيرة، حتى وإن بدأت الشكوك تحوم حول مصيرهما بعد تزايد «شعبية» النظام الدولي التعددي.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية