الشارقة: جاكاتي الشيخ
شغف الفنان السوداني تاج السر حسن بالخط العربي منذ صغره، فظلّ يتعلمه ويمارسه حتى حصل على عدة شهادات أكاديمية في مجاله، توِّج في نهايتها بحصوله على ماجستير الكلية المركزية في لندن للفنون والتصميم، لتتشكّل لديه رؤية جمالية خاصّة، قدّم من خلالها إبداعات فنية متطوّرة للأعمال الخطية الكلاسيكية، مضيفاً أبعاداً جديدة في التصميم والإخراج، كما هو جليٌّ في النموذج الذين بين أيدينا.
يتميّز تاج السر كثيراً في اشتغاله على المزج بين الخط العربي الكلاسيكي والفن التشكيلي، وصولاً إلى ما بات يعرف باللوحة الحروفية، والمعتمد على الحرف العربي كعنصر أساسي للتشكيل، وهو ما تنتمي إليه لوحته هذه، التي اختار لها نص الآية القرآنية الكريمة: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»، إلا أنه ـ وكما يبدو في اللوحة – يحتفظ غالباً بطابع الخط الكلاسيكي وأساليبه المعتادة، مع إضافة لمسات جمالية خاصة تضفي على اللوحة ميسَم الحداثة والتجدّد، إذ لم يستطع فكاكاً من أسر سحر النص الذي يكون عنده دائماً الموقد لشعلة التناص التجريدي الخطي والبصري اللوني في اللوحة الحروفية.
* تناظر
يقدم تاج السر في هذه اللوحة نص الآية الكريمة مستلهماً شكلها من المعنى الدلالي للمضمون، ليجد مبرّراً للتناظر في الشكل والتصميم، فجزاء الإحسان بالإحسان قابله بشكل تناظري لكلمتي «الإحسان»، لأن في المعنى تناظراً ورد قبل الأداة «إلا» وبعدها، فزاوج ما بين التناظر في الشكل والتناظر في معنى الآية الكريمة، التي تفيد بأن جزاء من يفعل الإحسان؛ من عبادة لله وحسن معاملة للناس هو نيل إحسان بالمثل وأفضل من الله جلّ جلاله في الدنيا والآخرة.
أبدع تاج السر في استخدام خط الثلث الجلي للوحة، رغم صعوبة الالتزام بقواعد هذا الأسلوب الخطي وموازينه، إلا أنه استغل ليونته وطواعية حروفه للتشكيل من أجل تقديم تحفة فنية فريدة، منحت الخط العربي بعداً شاعرياً مُتكئا على الدلالات الروحية للمضامين الحروفية والنصية، ويتجلّى ذلك في عدة لمسات رائقة، مثل موازنة اللوحة بفعل الخيط الشاقولي المركزي المار في الألف واللام ألف «إلا».
* اتساق شكلي
وقد اختار للشكل العام للوحة تصميماً مميّزاً، من خلاله ألِفي كلمتي «الإحسان» بمثابة القاعدة الحاملة للنص، في تكاتف بارز، فيما جمع في حضنهما كلمتي «هل» و«جزاء»، ليجعل المشاهد يبحث عن ذلك الجزاء في بقية أجزاء اللوحة، ويكتشف أن جزاء «الإحسان» هو «الإحسان» من خلال تناظر الكلمتين في أعلى اللوحة وجمعهما في حركة خطية بارعة، فيما شكّل اللام ألفات الثلاث من كلمتي «الإحسان» والأداة «إلا» في نفس المستوى ونفس المكان، ليمنح اللوحة بُعداً جمالياً بالتكرار والتشابه المتعمدين، وتبدو حروفها وكلماتها في اتساق شكلي باهر، كما وفق في اختيار الألوان المتناسقة للوحته، سواء في خط النص أو تشكيل مختلف جوانب اللوحة، من دون أن ينسى استغلال خاصية الزخرفة في أسلوب جلي الثلث، ليضيف لمسات متقنة في الفراغات بين الحروف من جهة والكلمات من جهة أخرى، جاعلاً من الشكل فسيفساء جماليا متميزا.
لقد باحت هذه اللوحة بمعانٍ روحانية عميقة، وكشفت عن لمسات جمالية باعثة على التأمل والتفكير في ما وراء الكلمات، وتعانق من خلالها الخط مع التشكيل في تناغم فريد، تتجلى من خلاله القيمة الشكلية والإبداعية التي يمنحها العمل الخطي المتقن، بما يختزنه من فضاءات خفية لا تنكشف إلا لمن اطلع على مثل هذه الأعمال وفهم دلالاتها الجمالية.
إن من يدرك القدرة الفنية للفنان والخطاط تاج السر حسن لا يستغرب هذا الجهد الإبداعي، الذي استطاع من خلاله تقديم ثراء بصري مشحون بالدلالات الجمالية، التي طالما مثلت الفنون الخطية العربية الإسلامية أبهى تجلياتها.