عبدالله السويجي
إنه ليس عصر السرعة فحسب، إنه عصر التوتر، وإذا كان التسارع في إيجاد الحديث في التكنولوجيا والتقنيات والتطبيقات قد وسم العصر بالسرعة، فإن طبيعة العلاقات بين الدول تسم العصر بالتوتر، لا سيّما مع تزايد التهديدات في مناطق الصراع الساخنة، أو ما يتوصّل إليه العلماء بشأن المناخ والبيئة واحتياطي النفط والمياه والثروات الطبيعية بشكل عام، هذه الثروات هي التي كانت سبب الحروب في السابق، وقد تكون هي سبب الحروب الحالية أو المستقبلية.
وهكذا نجد الإنسان أسير واقع لا يُحسد عليه، ومن غرائب الصدف أن يكون تطوّره التقني والتكنولوجي هو سبب ما يعانيه، أو أن ما يعانيه هو حصيلة هذه الاكتشافات غير المسبوقة في تاريخ البشرية، وأهم، وربما أخطر وأقبح هذه الاكتشافات والتطورات، ما حدثت في الميدان العسكري، أي التدميري، أي العدائي، وكأن الإنسان ابتكر أسلوباً حداثوياً ومعاصراً لتدمير نفسه، وبسرعة لم يكن هو نفسه يتخيّلها، وما يسهّل الأمر عليه، أنه يستطيع إنجاز الفعل التدميري عن بعد، ومن دون سابق إنذار. ففي السابق كانوا يسمعون صوت حوافر الخيول وغبار جحافل الجيوش الراجلة، فيستعدون أو يهربون أو يواجهون، أما اليوم، فالتدمير يشبه الصاعقة والرعد والمطر الحمضي المفاجئ، لا مجال لتداركه أو الاختباء منه.
المنطقة العربية تعيش توتّراً منذ مئات السنين، ولا يزال التوتّر ذاته، وبين الفريقين التقليديين، الشرق والغرب، وللأسباب ذاتها وإن يعبّرون عنها ويقولبونها بأشكال مختلفة. وإذا كانت منطقة الخليج تعيش استقراراً يحسدها عليه كثيرون، فإن باقي المنطقة العربية تغلي، إذا جاز لنا التعبير، ودرجة الغليان تتفاوت بين بلد وآخر، لكنها تعيش توتراً كبيراً يزداد كلما تأخرت الدول عن إحداث إصلاحات وتغييرات في نظامها السياسي والاقتصادي، وهذا التأخير هو الذي يولّد توتّرات داخلية وأخرى خارجية، وغالباً ما تكون السياسة هي السبب.
فالمنطقة العربية حالياً، خاصة في منطقة الهلال الخصيب، تعيش انتظاراً مصحوباً بتوتّر مَرضي، حين أقدمت دولة على الهجوم على دولة، وردت الدولة المُهاجَمة، والأخيرة تستعد للرد، ويطول الرد، وتبدأ التصريحات الدبلوماسية والعسكرية بتغذية هذا الترقّب، إلى درجة التصريح بشكل الرد ونوعية الضربة وقوتها، وهل ستؤدي إلى حرب إقليمية أو عالمية أم لا.
ويدور الحديث عن ضربة خفيفة لا تؤدي إلى حرب إقليمية، أو لا تؤذي الطرف المضروب، وهكذا، الشعوب تنتظر، والسياسيون ينتظرون، والتجار والمدارس والأنشطة السياحية والعلاجية وغيرها، كل العالم يعيش حالة انتظار، ولا حديث بين المختصين والمتابعين والوسائل الإعلامية إلا عن الضربة والرد، فإذا تأخّرت تخرج أصوات تستهزئ، وإذا اقتربت وضعوا أياديهم على قلوبهم، حتى بات الجميع يتمنون حصول الضربة حتى يستريحوا. والتوتر يتجاوز العامة، إنه بين السياسيين في طرفي النزاع، والعسكريين أيضاً.
ولا نبالغ إذا قلنا إن توتّر الحروب يصيب الناس بالأمراض النفسية والجسدية، وقد يصيب البعض بالصرع والجنون والهلوسة والخوف المزمن، وقد لا يعرف كثيرون، ومنهم السياسيون، أن التوتر وعدم الاستقرار والانتظار يؤلم المبدعين والكتاب، فتغيب الأفكار وتتراجع الجاهزية الكتابية، وقد يتأخر الإلهام أياماً، ونحن نتحدث عن المبدعين الحقيقيين، وليس عن المبدعين المصطنعين، وهنالك فرق بين من يكتب بروحه ودمه ومن يصف الحروف صفاً، وهذا التوتّر ينعكس على الإنتاجية بنوعيها الكمّي والنوعي، فتقل الإصدارات الجديدة في معارض الكتب.
ومن دون شك، يتأثر التجار كثيراً بهذا التوتر، فيجمّدون مشاريعهم ويؤجلون مشاريع أخرى، وقد يتلكؤون في الاستيراد، فتتأثر وفرة المواد الأساسية في السوق، ونحن نتحدث عن التجار أصحاب الضمير، وليس عن القطط السمان الذين يستغلون الحروب لتحقيق الأرباح الطائلة عن طريق زيادة الأسعار واحتكار المواد الأساسية وبيعها بأسعار خيالية.
ولا نبالغ إذا ذهبنا بعيداً نحو الأسرة، وقلنا إن التوتر والانتظار والقلق وعدم وضوح الرؤية تؤثر على خطط الإنجاب، بل تؤثر على القدرة على الإنجاب، فالقلق ضد الخصوبة، ونحن نتحدث من الناحية العلمية.
لا أدري، رغم أنني بيني وبين نفسي أجزم، أن القادة العسكريين وأصحاب القرار لا يفكّرون بهذه الطريقة الإنسانية، ولو فكّروا لما أرسلوا جنودهم إلى المعركة وهم يعلمون باحتمال خسارة نسبة كبيرة من عديدهم، أو أنهم يرسلونهم وهم على قناعة أنه لا بد من تضحيات، ويحدث أن يخوض أحد القادة حرباً يخسر فيها الآلاف من جنوده أو مقاتليه ويتبجّح بالانتصار والصمود، ويحدث أنه يشن حرباً بهدف كبير، وإذا عجز عن تحقيق الهدف يتراجع بعنجهية ولا يعترف بسوء التخطيط، بينما ترك أبناء شعبه لفترات طويلة يعانون التشرد والجوع والعطش والموت والأمراض، إضافة إلى التوتّر الذي يشوّه الأرواح ويمزّقها.
لا أعتقد أنني خرجت عن السياق، وربما يحدث التداعي نتيجة انعكاس التوتّر على اللغة، فكل كاتب غيور على أمته وشعبه لا شك سيتوتّر، لأنه دائم المتابعة والمراقبة والمشاهدة، ونحن نحيا هذه الأيام، وإن على شاشات التلفاز معارك تحدث تدميراً هائلاً بين الأطراف المتحاربة، وإن كان صاحب التكنولوجيا العسكرية هو الذي يحدث دماراً أكثر وأشد. ولا نملك إلا التمني والدعاء بأن تنتهي هذه الحروب في كل مكان، فالإنسان يستحق أن يحيا بأمان، والحديث مؤلم وذو شجون..