د. حســن مــــدن
إلى قرية روسية صغيرة تُدعى كوتشوك - كوي دعا أنطون تشيخوف نظيره الكاتب مكسيم غوركي. في تلك القرية كان تشيخوف يملك قطعة أرض صغيرة وبيتاً صغيراً من طابقين استضاف غوركي فيه. وهو يعرّف ضيفه على القرية، قال تشيخوف لو أنه كان عنده مال كثير لبنى في تلك القرية مصحاً من أجل معلمي الريف المرضى. كان تشيخوف طبيباً ويعرف بحكم التخصص والخبرة ما يعانيه من أمراض المعلمون المبتعثون إلى القرى النائية لتدريس التلاميذ فيها، في ظل نقص الرعاية الطبية الشائع يومها.
لم تكن تلك الأمنية الوحيدة لتشيخوف. حدّث ضيفه أيضاً عن أمنية تخصّه هو، فلو كان لديه مال كثير لبنى بيتاً كبيراً ومنيراً للغاية، ذا سقوف عالية، وفيه سيقيم مكتبة رائعة ويزوده بآلات موسيقية مختلفة، وفي ذلك البيت ستنظم محاضرات حول الزراعة، وعلم الأرصاد الجوية، وغيرها من العلوم. أما الغاية في ذهن تشيخوف فكانت: «على المعلم أن يعرف كل شيء».
ولأنه كان يعلم أن تلك مجرد أضغاث أحلام لقلة الحيلة، فإنه التفت إلى ضيفه غوركي، وعلى شفتيه ارتسمت «ابتسامة رقيقة حنون». في مديح تلك الابتسامة كتب غوركي يقول: «تلك الابتسامة كانت تجذب إليه الجميع، وتثير نحو كلماته اهتماماً مميزاً حاداً». مخاطباً غوركي قال تشيخوف: «ألا تضجرك تخيلاتي؟ أما أنا فيطيب لي الحديث عنها»، قبل أن يستطرد في الحديث عن حاجة القرية الروسية إلى المعلمين الجيدين الأذكياء، المثقفين، ويجب إجراء ذلك سريعاً إذا كنا ندرك أن أي دولة، «دون حملات تعليمية واسعة للشعب، سوف تنهار مثل بيت شيّد من طوب هش».
حديث يذكّرنا بما كتبه طه حسين في النصف الأول من القرن الماضي عن أهمية التعليم في بلاده، التي أراد لها النهوض والتقدم والعزة، كما أراد تشيخوف لوطنه روسيا. حول الفكرة إياها خصص طه حسين جزءاً مهماً من كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» لضرورة إعداد المعلم للقيام بالتعليم العام، مستعرضاً عدة تجارب غير مكتملة للنهوض بالمهمة، معتبراً أن الدولة ملزمة بأن تنشر التعليم الأولي، وتقوم عليه لأغراض بينها تكوين الوحدة الوطنية وإشعار الأمة بحقها في الوجود المستقل الحر.
وعودة إلى حديث تشيخوف مع غوركي، نجد الأول يشترط أن يكون المعلم فناناً وشغوفاً بعمله، وهذه مهمة لا تتحقق من تلقاء نفسها، وكما رأى طه حسين رأى تشيخوف أن على الدولة تولي إعداد المعلمين ليصبحوا مؤهلين، ما يقتضي أن توفر لهم ظروف عيش كريمة وخدمات جيدة، لأنهم يضحون في سبيل بناء أمتهم من خلال إعداد أجيالها الجديدة، وتزويد أفرادها، منذ الصغر، بالعلم والمعرفة والشغف بالثقافة والفن وحبّ الحياة.
[email protected]