الحسين الزاوي
عاد الحديث عن الردع النووي إلى واجهة الأحداث على الساحة الدولية بشكل مقلق، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وبدأت هذه العودة تثير مخاوف جدية بشأن السلم والاستقرار، وبخاصة أن العالم بات في المرحلة الراهنة أكثر خطورة واضطراباً من زمن الحرب الباردة الذي برز فيه الردع النووي كخيار استراتيجي في سياق عملية توازن القوى بين الشرق والغرب.
صحيح أنه، ومنذ نهاية الحرب الباردة، تقلص بشكل واضح، مكان الردع النووي في التفكير الاستراتيجي المتعلق بالسياسات الدفاعية في أوروبا، لاسيما بالنسبة للرأي العام الأوروبي الذي نظر إليه على أنه جزء من ميراث الحرب الباردة، وقد يكون غير فعال كونه غير متكيّف مع التهديدات التكنولوجية الجديدة التي بدأ يشهدها العالم في القرن الواحد والعشرين، وذلك إضافة إلى كونه سلاحاً خطراً وغير شرعي، بيد أن خطورة الوقائع التي تزيد من احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة، تجعل السلاح النووي، في صورتيه التكتيكية والاستراتيجية، يمثل رهاناً وجودياً بالنسبة للقوى الكبرى.
يشير أوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق إلى أن مفهوم الردع قديم مقارنة بظهور السلاح النووي ويعني «إظهار القوة لكيلا تكون هناك حاجة لاستعمالها»، ولن يظهر مفهوم الردع النووي مباشرة بعد استعمال القنبلة النووية في اليابان مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وسيتزامن استعماله مع تطوير القدرات النووية لأمريكا والاتحاد السوفييتي وبروز قناعة لدى بعض الاستراتيجيين بإمكانية استعمال السلاح النووي بثقة ومن دون ارتجاف. ومن ثم فإن هناك من أراد استعماله في كوريا وطالبت فرنسا من واشنطن تزويدها به لاستخدامه في الهند الصينية، ولكن التطور الذي حصل على مستوى هذا السلاح وجعل له قدرة تدميرية مرعبة ورهيبة، دفع مطوّريه في الشرق والغرب إلى التفكير فيه كأداة للردع وليس للاستعمال. وقد أدت التطورات التكنولوجية في العقود الأخيرة وبلوغ الصواريخ درجة عالية من الدقة إلى تداخل الردع مع إمكانية الاستعمال لمهاجمة مراكز القيادة والسيطرة التابعة للخصم.
وسيتدخل في هذا السياق عنصر جديد مع مرحلة الستينات من القرن الماضي يتعلق بالخوف من انتشار الأسلحة النووية على نطاق واسع يتجاوز القوى الكبرى، بعد أن سعت الكثير من القوى الإقليمية إلى الالتحاق بالنادي النووي الذي يضم 5 دول فقط، تشغل منصباً دائماً في مجلس الأمن وتمتلك امتياز حق النقض. وإذا كانت مرحلة نهاية الحرب الباردة قد شهدت تراجعاً في حدة السباق من أجل تطوير أسلحة الدمار الشامل، فإن عودة مظاهر المواجهة بعد غزو العراق سنة 2003، أدى إلى تزايد شعور العديد من الدول بالهشاشة الأمنية ودفعها ذلك إلى الانخراط مجدّداً في سباق تسلح محموم لم تعد الأسلحة النووية تشكل سوى أحد تجلياته إلى جانب أسلحة أخرى سمحت الثورة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي بتطويرها، وبدأ العالم ينتقل تدريجياً من مستوى الردع المتبادل إلى مستوى الهشاشة المتبادلة.
ويرى «آلان مانك» في السياق نفسه، أن الردع هو كناية عن سلطة مبدعة ومبهرة لأن السلاح النووي يمثل أعلى درجات القوة التي يمكن أن نصفها بأنها مطلقة، ولكن المفارقة تكمن في أن الردع هو امتلاك للسلطة والقدرة على عدم استعمال هذا السلاح، وكأننا بصدد لعبة فكرية، لعبة من خصائصها الذهاب نحو وضعيات تكون فيها البيادق، التي يمكن تحريكها، عبارة عن تجريدات. أما اللاعبون فينتمون إلى أنماط مختلفة، فهناك - بالترتيب- اللاعبون الرسميون الذين يمثلون القوى النووية الكبرى وعلى رأسها أمريكا وروسيا، والقناصة مثل الهند وباكستان، والراكب غير النظامي ممثلاً في إسرائيل التي ترفض الاعتراف حتى الآن بقدراتها النووية، والطامحون للالتحاق باللعبة، مثل كوريا الشمالية وإيران.
ويمكن الحديث هنا عمّا يشبه المعجزة في كون البشرية لم تشهد منذ سنة 1945 أي حوادث نووية، فإذا كانت الأسلحة الاستراتيجية مراقبة بشكل جيد من طرف أصحابها، فإن خطر انتشار الأسلحة النووية التكتيكية ظل قائماً منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، بسبب وجود قنابل نووية صغيرة كانت مخزنة في أراضي الجمهوريات السوفييتية. وكانت لعبة الذهاب نحو المربع النووي تفترض حتى الآن التزام الصمت والغموض، كما كان هناك ما يشبه القاعدة التكتيكية المتمثلة في عدم الحديث عن التهديد النووي لأن السكوت اعتبر أفصح من القول، وقد جاءت الحرب في أوكرانيا لتغيّر هذه القاعدة.
يذهب بعض المراقبين الغربيين إلى أن دولاً كبرى قامت باعتماد عقيدة نووية ملتوية وملتبسة وتريد أن تنتقل بالسلاح النووي من خانة الردع إلى خانة التخويف والترهيب لفرض سياسة الأمر الواقع بهدف تغيير الحدود، واتخاذ مواقف عدوانية قائمة على الابتزاز، في إشارة منهم إلى روسيا والصين، وهذا موقف يسعى إلى التضليل، عندما لا يذكر أن أمريكا هي الدولة الوحيدة التي استعملت بشكل فعلي القنبلة النووية ودمرت مدينتين يابانيتين. ومن ثم فإن الرهان لا يتعلق الآن بمستقبل السلاح النووي فقط، بل بمستقبل البشرية برمتها، إذا ما قرّر اللاعبون الكبار وفي طليعتهم واشنطن وموسكو، التخلي عن سياسة الردع التي ظلت معتمدة لعقود من الزمن، واللجوء إلى خيار تدمير الحياة على كوكب الأرض.
[email protected]
https://tinyurl.com/umnyefvz