الحجر أم البشر؟

00:44 صباحا
قراءة دقيقتين

وليد عثمان

في كل بقعة تشتعل فيها حرب، يجد كثيرون أنفسهم مرغمين على أن يكونوا جزءاً من مفاضلة، قد تبدو غير إنسانية للبعض، بل فجّة، أو على الأقل فيها قدر من الرفاهية، حين يعلو الصوت مطالباً بحماية المناطق التاريخية أو الأثرية، وتجنيبها ويلات الصراع.
وهذه مفاضلة مزعومة لا وجود لها من الأساس، فالإنسان، نفساً ومالاً وعرضاً، لا يمكن أن يوضع في ميزان واحد مع ما سواه من كائنات أو جماد. ومشكلة من يتصور غير ذلك، إذا كان مبرأً من المزايدة على غيره، غياب وعيه بأن المواضع التي تكتنز مراحل من تاريخ الإنسان، أو تخلّد آثاره في مراحل سابقة، لا يمكن أن تنفصل عن سياق استمراره في أي بلد، ولا عن المخزون الحضاري لهذا البلد وقدرته على استدعاء ماضيه، للفخر غالباً، ولاستنهاض الهمم حين يكون على مشارف الخطر أو في قلبه.
وليس جديداً القول إن بعض الحروب تبدأ بتدمير قوة البلد المستهدَف على استدعاء ذاكرته التاريخية، إن لم يكن محوها وتذويب كل معاني المنعة والصمود فيها، لترك إنسانها نهباً للحظة ضعف تنقطع فيها صلته بماضيه، وبالتالي بمستقبله، فيستسلم للإحساس بالهوان، ومن هنا ينفذ المحتل إلى روح صاحب الأرض من جهة تسفيه تاريخه، ومنها إلى الجغرافيا.
إن أي معتدٍ أو طرفاً في حرب، حين يستهدف التاريخ والجغرافيا لدى من يواجهه، لا يفعل ذلك عشوائياً، بل يدرك أن تدمير عوامل اعتزازه بذاته وتجربته الإنسانية من مقدمات هزيمته. وبالتالي، لم تخل ساحة حرب من استهدافٍ للمناطق التاريخية والأثرية، وكان الأمر في معظم الأحوال مقصوداً، وليس مجرد فعل عابر.
بالعودة إلى المفاضلة المفترضة بين الحجر المكتنز للمعاني والقيم، والبشر، وهم أصل كل شيء، والأبقى دوماً، لا يمكن الفصل أبداً بين الإنسان وتاريخه الموزع على جغرافيته. وبالتالي، فإن عصمة البشر وصون تاريخهم لا يجوز جعلهما أمرين متناقضين، ولا تسفيه أحدهما، وهو أمر أدركه الذين من قبلنا، وتعيه المنظمات المعنية، وَجِهات تتعاون في جهد كبير لصون التراث الإنساني في أماكن النزاع، خاصة أن استعادته بالشكل الذي كان عليه شبه مستحيل.
خسر العالم الكثير من آثاره، وهي معالم إنسانية مشتركة لا تمثل البلدان التي تحتضنها فقط، في أفغانستان والعراق وسوريا وفلسطين، ويتكرر الأمر في لبنان اليوم. وتعاني آثار دول أخرى تشهد أزمات، إهمالاً تفرضه الأولويات وقلة الإمكانيات، وهو الإهمال نفسه الذي يواجهه البشر فيها.
وفداحة هذه الخسارة هي التي حركت دولاً، منها الإمارات، ومنظمات للتحالف، أمام محاولات طمس معالم مضيئة في الذاكرة البشرية، بالتكامل مع مساعي حفظ الإنسان ذاته، واستعادة روحه التي تتجلى بلا شك في ميراثه الحضاري.
من هنا، فإن أي صرخة من داخل لبنان أو خارجه لحماية تراثه، ليست غضاً للطرف عن محنة أهله، بل هي مما يستقوون به في وجه محاولات محوه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/23txk88f

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"