عادي
صدر في الشارقة

«بحر اليعسوب».. السرد يتغنى بالأفكار

16:04 مساء
قراءة 5 دقائق
إيفون أدهيامبو أوور

الشارقة: علاء الدين محمود

الناشر: دار روايات

تتميز بعض الأعمال السردية، بكونها قادرة على إنتاج الأسئلة، والبحث عن أفق جديد، والتحريض على التأمل والتفكير، وهي نوعية من الروايات تحترم عقل القارئ، وتشركه في الأحداث والمصائر، إذ يشكل السرد عاصفة هوجاء في عقل المتلقي لا تكاد تسكت، تحمل الرؤى والأفكار، لكنها في ذات الوقت تحرص على الاحتفاظ بالأبعاد الجمالية، وما تلك الحمولة الفلسفية إلا خدمة للرؤية الإبداعية في النص.
رواية «بحر اليعسوب»، للكاتبة الكينية إيفون أدهيامبو أوور التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2022، بترجمة: جنى فواز الحسن، هي من الدرر السردية النادرة، التي تكشف عن ثراء الحكاية الإفريقية وتنوعها خاصة في شرق إفريقيا حيث التماس مع حضارات وثقافات أخرى، وكذلك حيث زوار القارة من الجنسيات المختلفة، وتلك نقطة مهمة في هذه السيمفونية الروائية المفعمة بمشاعر الشوق والحنين، والبحث المضني عن الجذور ومن أين جاء الأجداد، وأي علاقة تلك التي أعلنت عن ميلاد بطلة الرواية، إذ يقدم العمل غوصاً عميقاً في تلك المعاني، وتنقيباً جمالياً عن تاريخ العلاقات الإنسانية، وتناولاً فلسفياً للحب كشعور ومفهوم، كما يتناول العمل كذلك قضايا اجتماعية ووطنية مهمة مثل التفاوت الطبقي، وبالطبع فإن الرواية تتجمل بالسحر الإفريقي الخاص في السرد الذي يأخذ من مصادر متعددة على رأسها الأسطورة إلى جانب المنتج الثقافي الجديد الناتج عن تلاقح الثقافات ما بين إفريقيا والعالم الخارجي.

بحر اليعسوب


*أحلام
الرواية ـ كما تقول مقدمة الترجمة العربية لمجموعة كلمات ـ تحكي عن بطلتها أيانا، ورحلتها في البحث عن الذات، انطلاقاً من جزيرة «بيت»، في المحيط الهندي قُبَالة سواحل كينيا، مروراً بالصين وتركيا ومحطاتٍ أخرى. تطرح الرواية الكثير من الأسئلة حول الانتماء والمعتقدات والسلطة وتهميش أجزاء من البلاد لحساب المدن المركزية وأحلام بناء دول كبرى، ولعل تلك الطموحات كانت لها آثارها الاجتماعية قبل السياسية، فقد عرفت كينيا، كشأن بلدان إفريقيا الأخرى، تقلبات ومتغيرات وكانت من ضمن البلدان الناشطة في حركات التحرر الوطني، حيث يتعمق السرد في تناول الصراعات بطريقة نقدية.

إيفون أدهيامبو أوور


*حكاية
وعلى الرغم من كون الرواية خيالية، إلا أنها مستوحاة من حادث حقيقي في عام 2005، ففي ذلك الوقت حصلت شابة من جزيرة «بيت» في كينيا على منحة للدراسة في الصين، بناءً على ادعاءات عائليّة واختبارات الحمض النووي التي أشارت إلى أن أصول الفتاة كانت في الواقع منحدرة من بَحّار من سلالة مينغ الصينية، نجا من حطام سفينة دمّرتها عاصفة، ووجد، مع آخرين، ملجأ وشعوراً بالانتماء في جزيرة بيت، وتم إسقاط تلك الحوادث التاريخية على الرواية، بطريقة مبتكرة، لتتم إثارة أسئلة الجذور والانتماء والهوية، وكيف أن هذه الأشياء تصبح كشبح يطارد الشخص ويجعله في رغبة ملحة لمعرفة أصوله، فالرواية هي عبارة عن رحلة إلى حيث المنبع الأصلي، فالمعروف أن دولة كينيا شهدت الكثير من الاختلاط والهجرات من دول آسيوية عديدة منها بعض من بلاد العرب، حيث أن للثقافة العربية حضوراً قوياً هناك وكذلك في تنزانيا. 
*ثقافة عربية
أشارت المترجمة إلى أن البديع في هذه الرواية الإفريقية أنها قد حملت إشارات تضمنت أشعار حافظ الشيرازي ورابعة العدوية وأغنية لعمرو دياب، وفي بعض الأماكن، بدت قريبة جداً من الثقافة العربية، وأضاءت على مشاكل التطرّف الديني. ومنذ مئات السنين، استوطن في جزيرة بيت السكان العرب المهاجرون، ما أنتج امتزاج الثقافة الإفريقية الأصلية مع ثقافة المهاجِرين العرب والمسلمين، ويظهر ذلك في تأثر اللغة السائدة هناك باللغة العربية، فمن المعروف أن اللسان السواحيلي هو هجنة تجمع بين أخلاط من المفردات والألفاظ من بينها، بصورة رئيسية، اللغة العربية، وتظهر تلك الأشياء كذلك في الموسيقى وعدد من الإبداعات والفنون.
*عتبة نصية
اللافت في العمل كذلك هو العنوان: «بحر اليعسوب»، وهو عتبة نصية مهمة تقدم إضاءة عن عوالم الرواية، حيث إن اليعاسيب هي نوع من الحشرات تتميز بكونها مائية إلى جانب أنها تقوم بالترحال، فهي تهاجر لمسافات طويلة عبر المحيطات، لكنها في النهاية دائماً ما تعود إلى الوطن، ويحيلنا العنوان إلى بطلة العمل نفسها وكأن رحلتها في البحث عن جذورها تشبه تلك التي تقوم بها اليعاسيب، ونقرأ في العمل السردي هذه الاستهلالية البديعة للرواية التي تتحدث عن رحلة لليعاسيب: «لعبور المحيط المطلّ على الجنوب، كانت اليعاسيب تطارد المياه مع أسلافها في شمال الهند وقد انطلقت في رحلةٍ هادئة (بين الفصول) مع ريح الصباح.
في أحد الأيام من عام 1992، أي بعد أربعة أجيال، تحت غيوم زرقاء داكنة، استقرّت تلك الكائنات العائمة على الساحل الجنوبي الغربي لجزيرة فتاة صغيرة ملأتها أشجار المانغروف. تآمرت رياح المالتاي، مع اكتمال القمر المتلألئ للجزيرة، وصيادوها وتجارها وبحارتها وسيدات البحر ومداووها وبناة السفن والحالمون والخياطون فيها ومجانينها ومعلّموها وأمّهاتها وآباؤها بحماسةٍ عكست بحرها الفيروزيّ الهادئ»، ولعل ذلك الاستهلال الشاعري البديع يشير إلى أن العمل بحاجة بالفعل إلى قارئ ذكي ومتابعة دقيقة لمراقبة اللحظة الممعنة في الخيال في السرد، حيث إن العمل يصيب المتلقي أحياناً بالارتباك بحيث لا يفرق بين ما هو واقعي وما هو خيالي.

*تطرف
العمل يتحدث كذلك بصورة عميقة عن بعض القضايا الحقيقية التي عاشتها بلدان مثل كينيا وبعض دول شرق إفريقيا، ومنها قضية التطرف والهوس الذي فجر موجات من العنف، إلى جانب مشاكل سياسية مثل سعي الحكومة إلى إرضاء الدول الغربية بشتى السبل، وسيطرة بعض تلك البلدان العظمى على موارد إفريقيا، فالرواية أقرب بالفعل إلى الملحمة الغنائية، حيث تأخذ القارئ في رحلات إلى عدد من المدن والمعالم خارج كينيا، مع براعة في صناعة الشخصيات التي ترسخ في الذاكرة.
*أسلوب 
على الرغم من اللغة الشاعرية والغنائية الباذخة في العمل السردي، إلا أن الرواية نجحت في الجمع بين تلك الشاعرية البديعة على مستوى الوصف والحوارات، وبين تشييد معماري فكري ينهض برافعة السؤال، وتلك مهمة تبدو صعبة، لكن الكاتبة استطاعت أن تنجح في ذلك التحدي إلى درجة كبيرة، فالعمل قدم ثنائية الجمال النثري الشاعري وتناول مواضيع قد لا تبدو منسجمة مع لغة الشعر مثل الصراع الاجتماعي والهوية والبحث عن الجذور، لكن في حقيقة الأمر فإن سر جمال الرواية ومتعتها يكمن تحديداً في تمرير ثقل تلك الأفكار عبر الكاتبة المتعطرة بالشعر، ويتضح ذلك في التعبير عن البؤس والحزن والأوجاع من خلال دفقات شعورية مؤثرة، وكذلك عن الأفراح واللحظات السعيدة، ما يجعل المتلقي في حالة متقلبة بين تلك الأحاسيس المتناقضة، ولكن يبدو أن ذلك الأمر مقصوداً من قبل الكاتبة التي أرادت لروايتها أن تشبه العاصفة أو بحر متلاطم الأمواج، بحيث لا يعرف القارئ السكون بل يظل في حالة ترقب وجداني وذهني متواصل.


*اقتباسات
«الوقت كفيلٌ بتحويل حتى أصعب الكوارث إلى أصداء».
«الناس كانوا على استعداد للتعايش مع المأساة».
«يحوّل دوار البحر الأشخاص العاقلين إلى مجانين».
«الذين ماتوا بعيداً عن الديار لم يتذكرهم أو يبحث عنهم أحد لفترةٍ طويلة».
«خذي هذه التميمة، أيّتها الطفلة، واحفظيها بحب وشرف».
«من يذهب إلى مدينة (بيت) لا يعود، يبقى فقط صدى صرخة تتردد».
«كانت هوايته جمع الكتب النادرة المتعلقة بالبحر والحرب».
«ماذا لو كانت هذه القصة جزءاً من حكايا (ألف ليلة وليلة) لا تنتهي».
«تأثر بأغنية شرسة تشبث بها كشبح تقطعت به السبل».
«أنا أتلو القصائد للنجوم برفقتك».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4thkeu8f

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"