استهداف المؤسسات الدولية

00:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ناصر زيدان

طيلة عمر منظمة الأمم المتحدة الذي ناهز 79 عاماً، لم يتعرَّض أمينها العام لموقف مشابه لما تعرَّض له أنطونيو غوتيريش، حيث أعلنت الحكومة الاسرائيلية أنه «شخص غير مرغوب فيه»، ومنتعته من دخول البلاد، ونظَّمت حملة إعلامية لتشويه سمعته السياسية والإدارية لأنه تجرأ وقال إن ما ترتكبه قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين مخالف للقوانين الدولية، وما حصل مع غوتيريش تكرَّر مع المقررة الأممية لحقوق الانسان فرانشيسكا البانيزي، وقد طالب سفير إسرائيل في الأمم المتحدة باستقالاتها لأنها أعلنت أن إسرائيل تشنّ «حملة إبادة جماعية» ضد الفلسطينيين.
وتبدو الحملة الشعواء على المؤسسات الدولية -لاسيما منها التابعة للأمم المتحدة- واضحة، وليست مجرَّد ردة فعل على موقف متجرِّد، ذلك أن ما حصل مع وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» غير مسبوق، بحيث صدر قانون عن سلطات الاحتلال التشريعية يمنع التعاون معها، ولا يسمح لها بالعمل داخل الأراضي المحتلة، برغم أنها تأسست منذ ما بعد النكبة بموجب القرار الأمم رقم 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 8 كانون الأول/سبتمبر 1949، واستمرَّت بالقيام بواجباتها وتقديم الرعاية للفلسطينيين الذي تهجروا من أرضهم منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.
وتعرضت محكمة العدل الدولية لهجمات إعلامية وسياسية على خلفية القرار الذي اتخذته بتاريخ 19/ 7/ 2024، وطالبت فيه إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل غير قانوني منذ العام 1967، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي: «إن المحكمة تعتدي على حق تاريخي» من دون أن يقدِّم أي دليل على هذا الحق، سوى من خلال اعتقادات ميثولوجية واهية ليس لها أي أساس قانوني أو واقعي، ولم يكتفِ وزير الأمن القومي الإسرائيلي ايتمار بن غفير بالتهجَّم السياسي على المحكمة، بل هدد القضاة الذين وافقوا على القرار، واعتبرهم معادين للسامية، بينما الحقائق التاريخية تثبت أن الشعب الفلسطيني هو أيضاً من أصول سامية، ويعيش على أرضه التاريخية منذ مئات السنيين.
وقد هدد مسؤولون إسرائيليون وآخرون أمريكيون بعض قضاة محكمة الجنايات الدولية الدائمة في لاهاي، عندما أوصى مدعي عام المحكمة كريم خان بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت في أيار/مايو الماضي، على خلفية اتهامهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية استهدفت الفلسطينيين في قطاع غزة.
وبالفعل فقد تمَّ تأخير إصدار مذكرة الاعتقال، وقد نُقل القاضي الروماني الذي كان عليه إصدار المذكرة من منصبه، وقيل «بسبب وضعه الصحي» في مسعى واضح لعرقلة مجرى العدالة، ومثل هذه الضغوطات لم تحصل على قضاة المحكمة ذاتها عندما أصدروا مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 17 مارس/آذار 2023، والمذكرة الدولية كانت ستؤدي الى اعتقال نتنياهو وغالانت عند دخولهم لأي دولة من الدول ال124 الأعضاء في نظام روما الذي أُنشأت بموجبه المحكمة.
والمساعي الإسرائيلية لتقويض حراك المنظمات الدولية، مستمرِّة، وقد سببت خدوشاً كبيرة على الانتظام الدولي العام، لأن تجاوز مندرجات القرارات الدولية وموجبات المعاهدات التي تحمي الإنسان إبان فترة الحروب –لاسيما اتفاقيات جنيف الأربعة للعام 1949 وملحقاتها– سيُحدث فوضى دولية، وهو ما أدى أيضأ لطرح تساؤلات واسعة حول موقف الإدارة الأمريكية التي تساند إسرائيل في المحافل الأممية، وتزودها بالسلاح المتطور، ومن الواضح أن إسرائيل لا تستطيع القيام بهذه الحروب العدوانية المُكلفة لولا الدعم الذي يُقدم لها من الخارج. وقد أثار موقف وكالة التنمية الأمريكية التي تمنح المساعدات الخارجية، خوفاً واسعاً عندما أعلنت أنها لا تستطيع تقديم معونات لوكالة «الأونروا»، إذا كان هذا الأمر يخالف القوانين الوطنية، والمقصود تحديداً القانون الجائر الذي صدر في إسرائيل ضد هذه الوكالة الإنسانية.
المراقبون لمجرى السياسة الدولية يلاحظون حصول تغييرات سلبية كبيرة على سياق التعاطي مع المؤسسات الدولية الجامعة، بينما كان الوضع أفضل حالاً حتى إبان مرحلة الحرب الباردة التي كان يتزعمها القطبان الكبيران المتنافسان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قبل العام 1990، وغالبية اللوائح التشريعية الدولية صدرت إبان تلك الحقبة، وهي أسهمت في توفير شيء من الاستقرار على مدى يقارب النصف قرن، برغم الحروب المتنوعة والمختلفة التي حصلت خلال تلك الفترة.
من الواضح أن العالم أمام سياق دولي جديد قد يؤدي إلى إحداث تغييرات جوهرية على النظام القائم، وربما يُسبب حروباً أوسع مما هو حاصل اليوم في الشرق الأوسط وفي أوكرانيا، ويبدو من حجم العدوان الإسرائيلي في فلسطين ولبنان وغيرهما من دول المنطقة، أن أهداف الحرب تتجاوز مسألة الدفاع عن النفس التي تستند إليها إسرائيل في حربها، علماً أن مبدأ حق الدفاع عن النفس الذي نصَّت عليه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، لا ينطبق على إسرائيل كونها قوة احتلال، والميثاق لا يعطي الحق لقوة الاستعمار أو الاحتلال باستخدام القوة ضد أصحاب الأرض الأصليين.
هل نحن أمام مقاربات دولية جديدة لا تُعير الاهتمام الكافي للالتزام بالقوانين الدولية التي تُنظِّم العلاقات بين الدول؟ سؤال يرسم المستقبل، لكن ما هو موجود الآن سيؤدي إلى فوضى، وربما يفتح الفرصة أمام تعزيز التكتلات الدولية والإقليمية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3344btvx

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"